إن شيئا ما يلوح في الأفق؛ أفق الوطن. هذا المزيج من الجغرافيا والتاريخ والإنسان، وأشياء أخرى، هذه الرقعة التي تمنحك إحساسا بالانتماء إلى جسد إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. هذه القطعة من الأرض التي أصبح صيفها على صفيح ساخن؛ بل بات طوال فصول السنة موضوعا بإحكام على نار هادئة؛ من غير أن نعلم أسباب وضعه على النار، ولا أن نتعرف على النسخة الأصلية للواضع ولا لنافخ الكير. إننا أمام مشاهد من مسرح المأساة والملهاة؛ تمتزج فيها التراجيديا بالكوميديا، وإزاء فصول رواية يعجز فيها الروائي المتحكم في أبطاله وشخوصه، وأمام صانع أصنام آدمية، يتحول بعد نحتها عابدا للأوثان. نحن في خضم وليمة عقد نكاح شاذ ومناف للطبيعة، تواطأ موثقو الزواج والشهود معا لتبريره واستباحته؛ ليصبح مع توالي الأزمنة في حكم المشروع والمباح. في هذا الوطن، نرى كل يوم وجوها آدمية تتدحرج أمامنا من سلم القيم؛ من شدة غبائها أو من فرط تواطئها. في كل أرجاء هذا الوطن، تتحدث مكبرات الأصوات عن مشاريع تنموية واستثمارات خارجية. لعلها مشاريع تحمل جنسيات أجنبية؛ ولكن بتمويل وطني، أو لعلها مشاريع بلا نهاية كالأفلام والمسلسلات الوطنية، ولربما تحولت إلى أوهام، وتصاميمها بقيت حبرا على الورق. في ثنايا هذا الوطن، تتحالف سلطة السياسي، وسلطة الاقتصادي، وسلطة المثقف؛ لاغتصاب سلطة الزمن بهدره، وسلطة الهوية والقيم بتكريس بقايا ثقافة الاستعمار وأعرافه، واستيراد الغث وما أكل السبع من حضارته. في تضاريس هذا الوطن؛ جباله كما في سهوله وشواطئه، نرى شبابا غاضبا ويائسا مطاردا في شوارعه وأزقته وبمحاذاة مقر إقامته. صور تتكرر كل يوم ألف مرة، تمنحك شعورا بالخوف من أن يصبح الوطن مجرد محطة عبور لوسيلة نقل؛ يحزننا أن نمتطيها كما يحزننا أن تغادر دوننا، أو يغدو سجنا لا تهمة واضحة لمعتقليه؛ وقد اقتيدوا إليه ليلا، معصوبي العيون ومحاطين بزبانية من أبناء الوطن ذاته، يتقنون التجريد من الثياب؛ في انتظار التجريد من الوطنية من آخرين من أبناء الوطن. صور تشعر معها أن كل الأماكن باتت مقابر جاهزة لدفن الموتى. في هذا الوطن، نرى إعلاما يشبه أصحابه؛ ينام كل ليلة بملامح متعبة، ويستيقظ كل يوم بوجه تم تنظيفه على عجل، إعلاما يمنحك تذكرة الهروب من الوطن. بعض إعلامييه يتقمصون دور الروائيين المتخصصين في اغتيال الأبطال؛ يتخلصون من الأشخاص الذين يصبح وجودهم عبئا على حياتهم، يغتالونهم باستعمال كلمات؛ سلاحا بكاتم الصوت، أولئك الذين يجودون بالحياة على من يحبونه، ويمنحونه الخلود بتحنيطه بالكلمات إلى الأبد. ملامح هذا الوطن باتت كملامح الغرباء؛ لا تشبهنا في أي شيء، لا نملك فيه إلا عقد الازدياد وتصريح الوفاة. أما الشواهد الأخرى تأتيك على قدر دهائك أو تملقك أو حظوتك. وطن لا يسمح لك أصحاب البذل وربطات العنق بأن تحلم إلا بالكوابيس، ولا أن تتذكر إلا كبوات الوطن. فارحموا هذا الوطن المثخن بالجراح، أو امتطوا وسيلة النقل تلك التي غادرت دوننا.