مرة أخرى تفشل المقاربة الأمنية الاستبدادية وتخسر الدولة الاستقرار وثقة المواطنين وتحصد نتائج سلبية للغاية في مقابل نجاح الحسيميين في فرض مسيرات يوم الخميس الدموي 20 يوليوز 2017. ما نخشاه بعد التدخل الدموي يوم الخميس الماضيهو أن تخسر الدولةما تبقى من أمل الساكنة في الحل التوافقي بعدما خسرت هيبتها وخسرت ثقة الناس، وخسرت الإيمان بدور المؤسسات والأحزاب والمجتمع المدني الرسمي وغير الرسمي، وأن تعود منطقة الريف كلها إلى مناخات التوتراتالتاريخية، وأن تتطور الأمور من مسيرات منظمة ومشروعة إلىمسيرات الفوضى، وأن تتطور الأمور إلى أزمة سياسية هي الأسوأ لا قدر الله. ترى الدولة الحل في العنف وتتجاهل السبب الحقيقي للاحتجاجات المتتالية وتريد حصره في الجوانب المادية، وهي في ورطة تحاول إرضاء المواطنين بتسريع إنجاز المشاريع؛ بينما المشكل الحقيقي هو نفاذ صبر المواطنين وشعورهم بمهانة عابرة للوطن كله. يبدو أن الاستبداد وحكومته ودكاكينه السياسية،كما يريدها أن تكون،له دور كبير فيما يجري. لقد أعمتهم مشاعر الانفعال التي سيطرت عليهم بدلا من التعامل مع الأمور بعقلانية واتزان. منعوا المسيرة بحجة أنها مجهولة الهوية رغم أنها عمرت عشرة أشهر، ورغم أن مطالبها معروفة، تسلط عليها الأضواء وطنيا ودوليا، وقادتها في السجن يعرفهم الداني والقاصي، وخلَفهم في الميدان هم عائلاتهم وجيرانهم وكل معارفهم في المدينة والاقليم والوطن كله. في العرف – والعرف أقوى من القانون- لا يطلب من مسيرة بهذا الوزن وهذه المواصفات الالتزام بشكليات القانون، مثلها مثل مسيرات 20 فبراير التي استعصت على الشكليات القانونية، ومثل مسيرات المناسبات العرفية التي تنظمها القبائل والطوائف الدينية، ومسيرات الأعراس، ومسيرات الاحتفال بالفوز الانتخابي، ومسيرات تأييد الدستور، ومثل مسيرات سياسية يرعاها الاستبداد وغير قانونية شكلا ومضمونا كالمسيرة المفضوحة المعروفة بمسيرة ولد زروال والتي رفع فيها المتظاهرون شعار "بنكيران ارحل من الصحراء"!. إذن، من الحقارة والاستهزاء منع مسيرة شعبية معروفة أهدافها ومطالبها ومنظموها وطنيا ودوليا، ومن الاستغباء لعقول المواطنين مقارنتها بغيرها من المسيرات العادية التي يجب أن تخضع للشكليات القانونية!! من المتوقع بسبب المقاربة القمعية أن تتركب العقد النفسية تجاه الدولة؛لأن القمع هناكيزرع الحقد والكراهية ويجعل من الفئة الشابة قنبلة مؤقتة جاهزة للانفجار عاجلاً أم آجلاً بسقف عال من المطالب السياسيةأو مطالب متطرفة يصعب على الدولة تحملها، وقد تُدوَّل القضية وتصبح موضوع المؤسسات الدولية. يبدو أن الأمور تسير في هذا الاتجاه، والدولة وحدها تتحمل المسؤولية كاملة؛ تتحمل مسؤولية الاستبداد في أجهزتها، ومسؤولية إضعاف الأحزاب وتشجيع الاستبداد فيها وفي المؤسسات وهيئات المجتمع المدني. كثيرا ما يطرح علينا سؤال كيف يجهل المستبدون هذه الحقيقة؟ لماذا يولون ظهورهم للمبادرات العقلانية؟ ولماذا لا يأخذون العبرةمن غيرهم؟ التحليل النفسي وحده يملك التفسير لهذه المواقف غير المعقولة.الاستبداد هو تعبير عن حالة نفسية معقدة وغير سوية، هو نتيجة جنون العظمة، ومن أعراضها ما يسمى "الذهان النفسي". المستبد بهذه الحالة خطر على المجتمع لأنه يبدي مظاهر خادعة، ويبدو ظاهريا سليما وهادئا ومتزنا ويتمتع بالقدرة العقلية على الاستدلال غير أنه يبني استدلالات على أوهام وأمور غير واقعية تنكشف لا محالة آجلا. فالمستبد لا يأخذ العبرة مما يقع حوله، لأنه يعتبر نفسه متفردا لا يشبه أحدا ولا يشبهه أحد؛ مثلا عندما سقط الديكتاتور التونوسي بنعلي لم يأخذ منه الديكتاتور المصري مبارك العبرة ليعيد النظر في طريقةحكمه ويصحح مساره؛ لأنه اعتبر في نفسه قوة وحيلة لا يملكهما سابقه، وكذلك كان شعور القذافي وبشار الأسد وعلي عبد الله صالح والسيسي وغيرهم ممن سقطت هيبتهم بفعل رياح الربيع العربي؛ لأن كل واحد منهم يعيش عالمه الخاص متقوقعا على قوته الذاتية وحساباته الخاصة. وهم لا يؤمنون في هذا الأمر بشيء اسمه العلم والتحليل النفسي، بل لا تسمح لهم نفوسهم بقراءة مثل هذه التحاليل أو الاستماع إليها، ويستنكرون الحقيقة عندما يذكرون بها. يضرب المثل هنا بتصريح ديكتاتور يوغوسلافيا نيقولاي تشاوشيسكو عندما طرح عليه الصحفيون سؤالا عما إذا كانت المظاهرات التي عمت مدن رومانيا ستؤدي للتغيير، وهل يخشى أن تتطور الأمور للأسوأ، فأنكر كل ما تنقله الصحافة من الوقائع والأزمات وخطورتها على الدولة، وقال مستهزئاً "لن يحدث تغيير في رومانيا إلا إذا تحولت أشجار البلوط إلى تين"؛ لكن بعد أربعة أيام فقط من تصريحه تم القبض عليه هارباً مع زوجته وتم إعدامهما رميا بالرصاص. إنه التاريخ الذي يعيد نفسه في كل مكان وفي كل زمان، سنة الله في الذين يستمتعون بممارسة الاستبداد على غيرهم كما مورس عليهم في طفولتهم من قبل آبائهم والمسؤولين على تربيتهم، إنهإزاحة المريضِ العدوانَ الذي مورس عليه تجاه الآخرين. من طبائع المستبد أنه لا يتسع لأي خلاف من أي نوع كان، لا يثق في أحد، يعتبر الناصح له عدوا، والمنافقَ مخلصا، يحب من يمدحه ويغدق عليه بنعمه بشرط أن لا يقترب من سلطته؛ يذل المنبطحين المتقربين إليه بالإفراط في مدحه أو الخنوع له لغرض مشاركته في التسيير والتدبير أو لتأمين توجههم السياسي؛ لأنه لا يقبل من يشاركه في الاستبداد كما لا يقبل من يشاركه في الفساد، وكل المفسدين في ظل سلطته إنما هم مفسدون بالتبعية والتنفيذ وليس بالمشاركة في التدبير؛ لذلك يعمل النظام المستبد بتقوية الأحزاب التنكنوقراطيةالتي يصنعها، ويضعف الأحزاب التاريخية والإيديولوجية؛ لأنه يخاف من الفكرة التي تأسست عليا؛ولأن قادتها وإن دُجنوا يخاف من أن يخدموا بفسادهم أفكارهم، وأن يخلطوا بين خدمة مصالحهم وخدمة أفكارهم وإيديولوجيتهم،وأن يعودوا عند إحساسهم بالقوة إلى خدمة مشاريعهم الفكرية؛ كما يخاف عند الاختلاف معهم أو عند تعارض المصالح، أن يكشفوااسراره في الرذيلة والاستبداد. بالإضافة إلى ذلك يكره المستبد المخالف له في الرأي، حتى ولو كان الخلاف بسيطا جداً،ويعتبره خطراً على سلطته وعلى وجوده، ويخاف ممن ينافسه في الشهرة ومحبة الناس، لذلك يستوجب التخلص منه وبدون أي تردد؛ فغالبا ما يكون المستبد "سيكوباتي" يميل إلى السادية وخصوصا في لحظات الغضب والانفعال حيث يسقط قناع العقل والرزانة اللذين عادة ما يحاول إظهار نفسه بهما. لقد كشفت الأحداث التي عرفها المغرب بعد 07 أكتوبر والتي انتهت بإعفاء ابن كيران والانقلاب على مسار الانتقال الديموقراطي، وطريقة التعامل مع أحداث الحسيمة عن هذه الحالات النفسية المعقدة؛ أظهرت أن الاستبداد يعيش حالة الغضب والانفعال.يرى الحل بخصوص الحراك الاجتماعي في اتخاذ إجراءات أمنية متطرفةلغاية تنصيب الفخاخ للفاعلين والناشطين وتوريطهم في ردود أفعال منحرفةلعلها تزرع الخوفوتوقفالتعاطف الشعبي وتوقف ما اعتبره سلوكا تهديديالوجوده. في ظل هذه الظروف النفسية والاجتماعية، يكون الفاعلون الديموقراطيونوالمجموعات الشعبية الفاعلةفي الحراك بدورهم مسؤولين أيضا عنالاستغلال الأمثل لهذه الفرصة بالثبات والاستمرار في المطالبة بالحقوق المشروعة بطريقة سلميةوبتماسك وصبر ومصابرة ومرابطة على الخير ودفع الكيد وعدم الاستماع لا لدعاة التطرف وردود فعل غير محسوبة العواقب ولا لدعاة النكوص والهزيمة والبلبلة؛ مع العلم أن الديموقراطية في المغرب، رغم إصلاحات دستور 2011، تتخذ مسارا هشا يسهل الانقضاض عليه وإنهائه كما وقع لتجربة ابن كيران، يتوقف ترسيخها على مدى وعي الشعب وقوة تماسكه؛فمثلا في تركيا تهتم الدولة بتقوية الشعب والأفراد والجماعات والأحزاب لأنها مصدر قوة الدولة وأسها وقاطرة تنميتها؛ لذلك فشل فيها الانقلاب على الديموقراطية، لأن الأحزاب معارضةً وأغلبيةًوجميع أفراد الشعب ومنظماته الاجتماعية والسياسية يشعرون كلهم أنهم صانعوا الديموقراطية وحماتها؛ بينما المعادلة في الدولة المغربيةتسير عكس حركة التاريخ، لا تؤمن القوى المتحكمة بالديموقراطية، وتقوى الاستبداد وتضعف الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، وتمهن في إهانة كرامة المواطنين، والدولة فيها دولتان، والحكومة حكومتان.. إنها حقيقة الاستبداد في المغرب بكل تجلياتها. ليس من مصلحة الدولة تجاهل ضرورة الإصلاح الساسي؛ لأن من شأن ذلك أن يتفاقم الوضع ويحصل ضعفها على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية وغيرها وينتقل إلى مرحلة الدورة الخلدونية المعروفة في تاريخ تكون الدول في المغرب؛ فيتطلع اللاشعور المجتمعي، من حيث لا يعلم ولا يدري ولا يريد أحد، إلى العمل على إضعاف الدولة القائمة وإرباكها فتعم الفوضى ويؤدي الجميع ثمن طلب الاستقرار غاليا جدا. الاحتجاجات وتناميها بهذا المستوى المنظم والهادف فرصة سانحة للمؤسسة الملكية لتتخلص من أغلال الاستبداد المعشش في جميع مرافق الدولة؛ وحدها تملك الحل السريع بالتشخيص الدقيق أولا لخطورة الأوضاع على الأمن والاستقرار ثم التخطيط لوضع النهاية لجيوب الفساد والاستبداد، وتمهيد الطريق نحو التحول إلى ملكية ديموقراطية دستورية حقيقية مستقرة بتحريك آلية جديدة للاجتهاد السياسي وإعلان إصلاحات دستورية جديدة تؤسس للتحول الديموقراطي. إن الذي جعلنا نخوض في هذا الموضوع بهذه الطريقة وهذه الصراحة، هو تطور الأحداث، وانسداد آفاق الحلول المعقولة، وتعذر وقف التدخلات الأمنية الخارقة لحقوق الانسان والمواقف الرسمية الطاعنة في مصداقية الدولة، ولأننا لا حظنا ميلا قويا لدى القوى المتحكمة وإعلامها إلى إظهار الملكية في صورة تحول خطيرومباشر، يضر بالملكية التي أقامها المغاربة، من ملكية منزهة عن المشوشات تقوم بدور الحكَم واللحمة بين الاختيارات والتوجهات إلى ملكية تفاضل بين التوجهات وبين الأحزاب – كما جاء في تأويلات خطاب داكار وبلوكاج تشكيل الحكومة الذي انتهى بإعفاء ابن كيران من تشكيل الحكومة، وتبعد هذا وتقرب هذا، وتخوض في تجارة الربح والخسارة وتميز بين المشاريع الملكية وغير الملكية، وتميز في مواطنيها بين الصديق والعدو وبين أذكيائهم وأغبيائهم وبين الصالحين وغير الصالحين وبين المخلصين وغير المخلصين إلى غير ذلك من التصنيفات السلبية التي تعرضها للنقد والاسفاف.ويبقى مقصودنا من تناول هذا الموضوع هو الغيرة على وطننا وإخلاصنا لشعار "الله..الوطن.. الملك" بإظهار الحق والنصيحة لله وللرسول وللإمام ولأنفسنا وعامة المواطنين للوصول إلى المصلحة العامة والسداد لأمتنا بما يهديها إلى سواء السبيل.