مثل انعقاد المجلس الوزاري الأول مع حكومة العثماني يوم الاحد الماضي حدثا استثنائيا في تاريخ المغرب المعاصر، استثناء في الشكل وفي المضمون بل استثناء حتى في السياق الذي يوصف بالدقيق وبالصعب في ظل المسار الذي اتخذه الحراك بالحسيمة بعد بلاغ الديوان الملكي. سياق بلاغ الديوان الملكي: تزامن إصدار البلاغ الملكي بعد المجلس الوزاري مع ارتفاع حدة الحراك بالحسيمة واستمرار الدولة في اعتقال المحتجين والإعلان عن عدة تغييرات وتنقيلات لمسؤولي الإدارة الترابية لكن دون تغيير والي الجهة طنجةتطوانالحسيمة .وكان من المنتظر ان تهيمن أحداث الحسيمة على أشغال المجلس الوزاري بعد فشل الحكومة ووفودها المتتالية في إيقاف الحراك بالحسيمة, الأمر الذي جعل ملك البلاد يعبر عن قلقه واستيائه وسخطه على الحكومة ووزرائها الذين وقفوا عاجزين وتائهين امام تطور الحراك بالحسيمة الذي أساء كثيرا لصورة المغرب وطنيا وإقليميا ودوليا حاولت وتحاول بعض القوى استغلاله لخدمة أجندتها ضد امن واستقرار المملكة.وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار قلق البلاغ الملكي تجسيدا لطبيعة السياق العام المغربي المقلق الذي عقد فيه المجلس الوزاري. البلاغ الملكي والعودة القوية للملكية التنفيذية: لا شك ان تدخل جلالة الملك بالمجلس الوزاري جاء قويا وصارما في شكل لغته او في رسائل مضمونه معتمدا في ذلك على مضمون الفصلين 42و 49 من الدستور خصوصا بعد تأكيد الحراك بالحسيمة عجز الحكومة والأحزاب السياسية كوسائط اجتماعية عن القيام بأدوارها المنوطة بها دستوريا, والأكيد ان انهيار هاته الوسائط الاجتماعية له مخاطر في مقدمتها جعل المحتجين في مواجهة مباشرة مع المؤسسة الملكية، الأمر الذي دفع بالمؤسسة الملكية اخذ الأمور بيدها وممارسة صلاحياتها الدستورية كمؤسسة تنفيذية قوية امام حكومة تائهة وأحزاب عاجزة , وقد تجلى هذا العجز في فشل رئيس الحكومة التحكم حتى في اجهزة حزبه أي حزب العدالة والتنمية – الحزب المعروف بالانضباط- بمنطقة الريف التي تمردت عليه واتخذت مواقف مناقضة لبلاغ أحزاب الأغلبية ليوم 5 ماي 2017. وأمام تحديات وتطورات الحراك بمنطقة الريف والرفع من سقف المطالب وتيه الحكومة وانهيار الوسائط الاجتماعية فمن المنطقي ان تبرز الملكية كسلطة تنفيذية قوية حفاظا عن امن واستقرار البلاد واتخاذ القرارات الملائمة من بينها امكانية القيام بتعديل حكومي جوهري بعد اقتناع كل مكونات المجتمع المغربي بان الحكومة الحالية اصبحت متجاوزة امام تسارع وتيرة الحراك. شكل البلاغ الملكي: تطور الأحداث بالحسيمة جعلت ملك البلاد يخاطب رئيس الحكومة ووزراءه بلغة قوية الدلالة مفادها انه غير منطقي وغير معقول وغير سليم وغير أخلاقي سياسيا ان لا تلتزم الحكومة بالمشاريع التي توقع امام جلالته لان من شان ذلك جعل المؤسسة الملكية في حرج امام الشعب مما يمكن ان تكون له بعض المخاطر على مسالة الثقة في المؤسسات.وطبيعي في مثل هاته السياقات ان يعبر جلالة الملك بصفته رئيس الدولة –الفصل42- عن قلقه وانزعاجه من عدم تحمل الحكومة مسؤولياتها الدستورية في مجال تدبير السياسات العمومية وتنزيل أسس الجهوية المتقدمة ونهج المقاربة الاستباقية في تدبير الأزمات الاجتماعية وعليه فقلق جلالة الملك وانزعاجه اتجاه الحكومة قد جسده شكل البلاغ الملكي .مضمون البلاغ الملكي: عادي جدا في مثل شروط انتاج البلاغ الملكي ان يكون مضمونه عبارة عن نقد لاذع للحكومة وكيفية تدبيرها لملف الحراك بالحسيمة الذي دام اكثر من 7 اشهر ، وكان منتظرا ان يثور ملك البلاد في وجه وزراء حكومة العثماني وان يرسللهم رسائل صارمة وزعت بين المحاور التالية: 1- تحميل الحكومة مسؤولية عدم تنفيذ المشاريع التي يتضمنها البرنامج التنموي الكبير، الذي تم توقيعه امام جلالة الملك بتطوان في أكتوبر 2015، في الآجال المحددة لها.وبالخصوص مشروع « الحسيمة منارة المتوسط »، الذي أعطى إنطلاقته الملك في أكتوبر 2015،ويتعلق بإنجاز المراكز الاستشفائية المتخصصة، وبناء مطار الشريف الإدريسي، وتهيئة منطقة صناعية، وبناء ملعب كبير لكرة القدم، وإحداث مسبح أولمبي، وقاعة مغطاة بمعايير دولية، وتشييد قاعتين مغطاتين بجماعتي أجدير وإساكن، وتهيئة ملاعب رياضية لفرق الهواة، إلى جانب بناء مسرح ومعهد موسيقي ودار للثقافة وإنجاز عدد من المشاريع الاجتماعية، الموجهة بالأساس للشباب والفئات الهشة وقد وقع الاتفاقية آنذاك، كل من وزير الداخلية محمد حصاد، الذي يشغل منصب وزير التعليم حاليا، ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق، ووزير الاقتصاد والمالية محمد بوسعيد، ووزير الفلاحة والصيد البحري عزيز أخنوش، ووزير التربية الوطنية والتكوين المهني السابق رشيد بلمختار، ووزير الصحة الحسين الوردي، ووزير السياحة السابق لحسن حداد، ووزير الشباب والرياضة السابق لحسن السكوري، والوزير المنتدب لدى وزير النقل والتجهيز واللوجستيك المكلف بالنقل محمد نجيب بوليف، والوزيرة المنتدبة لدى وزير الطاقة والمعادن والماء والبيئة المكلفة بالبيئة سابقا حكيمة الحيطي، والوزيرة المنتدبة لدى وزير الطاقة والمعادن والماء والبيئة شرفات أفيلالويتبين من المشاريع التي لم تنجز كان يشرف عليها وزراء من أحزاب العدالة والتنمية ووزراء من التقدم والاشتراكية ووزراء من حزب الحركة الشعبية ووزراء من حزب التجمع الوطني للاحرار ووزراء مستقلين وهو ما يعني ان جل الأحزاب المشكلة لحكومة العثماني الحالية هي التي تتحمل مسؤولية عدم التزامها بانجاز المشاريع التي وقعت امام جلالة الملك والتي هي احد أسباب الحراك بالحسيمة , وهو ما يعني انه اذا ما ثبت مسؤولية هؤلاء الوزراء في عدم انجاز المشاريع التي وقعوها امام جلالته فان مآلهم سيكون الإعفاء او الاقالة ثم المحاسبة. 2- منع ملك البلاد وزراء القطاعات المعنية من عطلهم االسنوية وهو ما يدل ان الوزراء المسؤولين على الخصوص على هذه القطاعات في الحكومة الحالية سيعيشون صيفا ساخنا وضغوطات كبرى في انتظار تقارير لجن التفتيش التي كلفها جلالة الملك بذلك مما يوحي بان بقاء التعديل الحكومي لن ينتظر شهورا بل انه قد يحدث في عز فصل الصيف 3- اصدار الملك محمد السادس، تعليماته لوزيري الداخلية والمالية، قصد قيام كل من المفتشية العامة للإدارة الترابية بوزارة الداخلية والمفتشية العامة للمالية، بالأبحاث والتحريات اللازمة بشأن عدم تنفيذ المشاريع المبرمجة، وتحديد المسؤوليات، ورفع تقرير بهذا الشأن، في أقرب الآجال وهو ما يعني ان جلالته يحمل الحكومة المسؤولية الكاملة في الحراك بالحسيمة. 4- رفض جلالة الملك تقديم مشاريع واتفاقيات لا تستوفي جميع شروط الإنجاز، سواء في ما يتعلق بتصفية وضعية العقار، أو توفير التمويل، أو القيام بالدراسات، على أن تعطى الانطلاقة الفعلية للأشغال في أجل معقول وهو ما يعني اتساع فقدان الثقة بين الملك والحكومة .5- مطالبة الملك محمد السادس الاحزاب المشكلة للحكومة او الهيآت المنتخبة ضرورة تجنب تسييس المشاريع الاجتماعية والتنموية التي يتم إنجازها، أو استغلالها لأغراض ضيقة ليرد بذلك على الاتهامات المتبادلة بين حزب الأصالة والمعاصرة التي يهيمن على جل مؤسسات جهة طنجةتطوانالحسيمة وبين احزاب الاغلبية خصوصا حزبي العدالة والتنمية والتقدم والاشتراكية التي تتقاذف مسؤولية الحراك بالحسيمة في بينها.تداعيات البلاغ الملكي:كل المؤشرات تدل على رئيس الحكومة ووزراء حكومته خرجوا من اجتماع المجلس الوزراي وايديهم على قلوبهم لانهم يدركون ما معنى الغضبة الملكية خصوصا في سياق صعب ودقيق اختلطت فيه الكثير من الاجندات والحسابات, وعليه سيتحمل وزيرا الداخلية والمالية، وخصوصا المفتشية العامة للإدارة الترابية بوزارة الداخلية والمفتشية العامة للمالية مسؤوليات كبرى وحاسمة للقيام بالأبحاث والتحريات اللازمة بشأن عدم تنفيذ المشاريع المبرمجة، وتحديد المسؤوليات، ورفع تقرير بهذا الشأن لجلالة الملك ليتخذ القرارات المناسبة في حق الوزرات والوزراء المعنيين.والاكيد ان ما جرى بالحسيمة يوم العيد أي يوما بعد إصدار البلاغ الملكي سيعقد الأمور اكثر بين الدولة والمحتجين خصوصا بعد انتقال سقف المحتجين من مطالب اجتماعية الى مطالب إطلاق سراح المعتقلين وهي معادلة صعبة :الدولة لا يمكنها ان تفقد هيبتها وهيبة المؤسسة القضائية والمحتجون بالحسيمة لن يقبلوا الا بسراح المعتقلين وبين هيبة الدولة وتعنت المحتجين تتجه كل الأنظار نحو المؤسسة الملكية لكونها تبقى الملاذ الأخير لوضع حد لحراك تجاوز بعض الخطوط الحمراء.البلاغ الملكي والتعديل الحكومي: قوة لغة البلاغ الملكي ومنع الوزراء من عطلهم السنوية واستمرار الحراك بالحسيمة حتى من بعد البلاغ الملكي وانعقاد المجلس الوزاري – الذي اتخذ فيه ملك البلاد قرارات حاسمة – يؤكد بان حكومة العثماني في ازمة حقيقية ليس فقط بسبب عجزها التدخل لاحتواء الحراك بل كون بعض الاحزاب المشكلة لها تعمل لعرقلة المشاريع التنموية وفق حسابات ضيقة بل ان بعض أحزاب الأغلبية الحكومية تعيش تناقضا غريبا قيادتها المركزية تدين الحراك بالحسيمة وتنسيقاتها وفروعها المحلية تدعم الحراك وتعترف بمشروعيته بل انها مع مطالب المحتجين لإطلاق سراح كل المعتقلين دون شروط مما يوحي بانها أحزاب الاغلبية الحكومية اصبحت عاجزة حتى على ضبط قواعدها المحلية فكيف بإمكانها إقناع المحتجين بالحسيمة ويتعلق الامر باحزاب العدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي.وانطلاقا من نوعية العلامات اللغوية للبلاغ الملكي ومن العلامات السيميولوجية لنظرات ملك البلاد وإشاراته وإيحاءاته يمكن تكهن وقوع زلزال سياسي داخل حكومة العثماني في الايام المقبلة قد يكون اكثر ضحاياه وزراء حزبي التقدم والاشتراكية والعدالة والتنمية خصوصا اذا ما بقيت هوية التناقض في المواقف تتسع بين الحكومة والمحتجين، وما يمكن ان تفرزه من انزلاقات لا بالنسبة للدولة او بالنسبة للمحتجين مما دفع ملك البلاد مطالبة لجن التفتيش مواتيه بتقارير مفصلة حول كل المشاريع التي وقعت امامه شهر اكتوبر في اقرب الآجال لاتخاذ قرارات سريعة وعيا من جلالته بأهمية عامل الزمن في تدبير زمن الأزمات. الاكيد ان جلالة الملك سيغضب على ما وقع يوم العيد بالحسيمة بين قوات الامن والمحتجين لانه واع بصعوبة مهمة التفاوض بين الدولة وبين المحتجين مما يقوي امكانية لجوء جلالة الملك لسيناريو تدخل مباشر في الحراك .استاذ التعليم العالي جامعة محمد الخامس