تداولت وسائل الإعلام مؤخرا خبر الحكم بخمس سنوات سجناً على أبرز المعارضين للنظام المصري أيمن نورغرد النص عبر تويتر. لا داعي هنا للتوقف عند المبررات؛ فالأحكام في مصر اليوم لا تخضع إلا لمنطق القوة، ومن ثم عبثٌ مواجهتُها بالمنطق أو القانون. الثابت أن أيمن نور مناضل ديمقراطي لم يَدْعُ -في يوم من الأيام- إلى العنف، بل كان دوما من أنصار البحث عن الحلول السياسية، ومع ذلك أجبِر على المنفى وحُجز جوازه وعُلقت به قضايا عديدة مفتعلة. هو للأسف نموذج لظاهرة تشمل الآلاف من المعارضين، أشهرهم الرئيس محمد مرسي الذي يقبع في السجن منذ ذلك الصيف المشؤوم، صيف 2013. وهو أيضا لم يكفّ -إلى آخر لحظة- عن الدعوة إلى حلول سياسية، ومناشدة المصريين المحافظة على سلمية مظاهراتهم، ومع ذلك حُكم عليه بالإعدام. نحن هنا أمام أبرز مثالين أو أبرز رمزين -أولهما للتيار العلماني والثاني للتيار الإسلامي- أصرّا على معالجة مشاكل مصر بالوسائل السياسية؛ فوُوجها كما وُوجه الآلاف من أنصارهما بالقوة الفظّة. أهمية الظاهرة ليست فقط تكلفتها الإنسانية الباهظة وإنما ما تخفيه، أي سعي السلطة المصرية الحالية لقتل السياسة عمدا وبسابق الإضمار. من الصعب تحديد مفهوم واحد أو تعريف يرضي الجميع للسياسة، نظرا لكثرة مداخلها ومخارجها ومستوياتها، لكنه يمكن التقدم برؤية تحدد السياسة بكونها فنّ إدارة الصراع مع الأعداء والخصوم بكيفية تؤخر أو تلغي المواجهة العنيفة، وفنّ إدارة شؤون المجتمع بكيفية تخفض مستوى الاحتقان وتجعل حل الخلافات بالعنف استثناءً لا قاعدة. معنى هذا أن السياسة تعرّف بأهدافها أي تحقيق المصالح دون إراقة الدم، وبوسائلها المفضلة أي الحوار والتفاوض والبحث عن حلول وسطية مع الأطراف الوطنية، وبالدبلوماسية مع الأطراف الخارجية. وفي اللهجة التونسية معنى لا يغيب دوما في فهمنا نحن التونسيين للسياسة، حيث يعني فعل ''سايس'' بالعامية: ترفّق.. كن ليّنا، انتبه لخطورة ما تفعل. وعندما نقول لسائق متهوّر ''بالسياسة'' فإننا نعني سق بتأنّ وبلطف ودون عدوانية. وفي الفصحى ساس الشيء يعني أحكم التدبير فيه بتحكيم العقل، وروّضه. ما لا ينتبه له الناس أننا لا نمارس السياسة فقط في مستوى الأحزاب والدول. نحن نمارسها كل دقيقة وكل يوم في حياتنا الاجتماعية العادية، ولو لم نكن من مهرة السياسيين لانفجرت عائلاتنا، وذهبت صداقاتنا أدراج الرياح، واستحال العيش بين أبناء الحي الواحد والمدينة الواحدة. قد نواجَه هنا بمقولة كلاوسفيتز المنظّر الشهير للإستراتجيات العسكرية: ''الحرب هي مواصلةٌ للسياسة بوسائل أخرى''. وحتى في هذه الرؤية نرى أن الرجل جعل السياسة هي الأصل والحرب فرعا منها، وقدّم السياسة على الحرب، وضمّن ذلك تلقائيا معنى على قدر بالغ من الأهمية، ألا وهو أن الحرب أداة مؤقتة للسياسة وليست بديلا عنها. هذه الأداة المؤقتة لا يستعملها حكماء السياسة إلا في الحالات القصوى، وعندما تستعصي كل الحلول السلمية، ولأقصر الآجال. ليس من باب المفارقة القول إن مهمة الحرب الأولى هي الوصول إلى السلام، أو أن مهمة الحرب -بما هي وضعٌ للسياسة بين ظفرين مؤقتا- العودةُ إليها بأسرع وقت نحن هنا أمام أبرز مثالين أو أبرز رمزين -أولهما للتيار العلماني والثاني للتيار الإسلامي- أصرّا على معالجة مشاكل مصر بالوسائل السياسية؛ فوُوجها كما وُوجه الآلاف من أنصارهما بالقوة الفظّة. أهمية الظاهرة ليست فقط تكلفتها الإنسانية الباهظة وإنما ما تخفيه، أي سعي السلطة المصرية الحالية لقتل السياسة عمدا وبسابق الإضمار. من الصعب تحديد مفهوم واحد أو تعريف يرضي الجميع للسياسة، نظرا لكثرة مداخلها ومخارجها ومستوياتها، لكنه يمكن التقدم برؤية تحدد السياسة بكونها فنّ إدارة الصراع مع الأعداء والخصوم بكيفية تؤخر أو تلغي المواجهة العنيفة، وفنّ إدارة شؤون المجتمع بكيفية تخفض مستوى الاحتقان وتجعل حل الخلافات بالعنف استثناءً لا قاعدة. معنى هذا أن السياسة تعرّف بأهدافها أي تحقيق المصالح دون إراقة الدم، وبوسائلها المفضلة أي الحوار والتفاوض والبحث عن حلول وسطية مع الأطراف الوطنية، وبالدبلوماسية مع الأطراف الخارجية. وفي اللهجة التونسية معنى لا يغيب دوما في فهمنا نحن التونسيين للسياسة، حيث يعني فعل ''سايس'' بالعامية: ترفّق.. كن ليّنا، انتبه لخطورة ما تفعل. وعندما نقول لسائق متهوّر ''بالسياسة'' فإننا نعني سق بتأنّ وبلطف ودون عدوانية. وفي الفصحى ساس الشيء يعني أحكم التدبير فيه بتحكيم العقل، وروّضه. ما لا ينتبه له الناس أننا لا نمارس السياسة فقط في مستوى الأحزاب والدول. نحن نمارسها كل دقيقة وكل يوم في حياتنا الاجتماعية العادية، ولو لم نكن من مهرة السياسيين لانفجرت عائلاتنا، وذهبت صداقاتنا أدراج الرياح، واستحال العيش بين أبناء الحي الواحد والمدينة الواحدة. قد نواجَه هنا بمقولة كلاوسفيتز المنظّر الشهير للإستراتجيات العسكرية: ''الحرب هي مواصلةٌ للسياسة بوسائل أخرى''. وحتى في هذه الرؤية نرى أن الرجل جعل السياسة هي الأصل والحرب فرعا منها، وقدّم السياسة على الحرب، وضمّن ذلك تلقائيا معنى على قدر بالغ من الأهمية، ألا وهو أن الحرب أداة مؤقتة للسياسة وليست بديلا عنها. هذه الأداة المؤقتة لا يستعملها حكماء السياسة إلا في الحالات القصوى، وعندما تستعصي كل الحلول السلمية، ولأقصر الآجال. ليس من باب المفارقة القول إن مهمة الحرب الأولى هي الوصول إلى السلام، أو أن مهمة الحرب -بما هي وضعٌ للسياسة بين ظفرين مؤقتا- العودةُ إليها بأسرع وقت الدافع الرئيسي -بطبيعة الحال- هو أن خيارات العنف لا يتحملها مجتمع إلا كما يتحمل الزلازلوانفجار البراكين، أي كنوْبات خلل يجب ألا تدوم، مما يعني إجبارا العودة إلى السياسة في أسرع وقت. على عكس كل هذا؛ نرى النظام المصري يتصرّف وكأنه لم يعد بحاجة إلى السياسة، وأنه دخل في حرب أزلية ضدّ الخصوم وحتى ضدّ أقرب المقربين منه فلا مجال اليوم في أرض الكنانة لأي حوار أو تفاوض مع المخالفين في الرأي، وإنما كل المجال لاضطهادهم والتنكيل بهم. كما لم يعد هناك مجال لأهداف السياسة، أي خفض الاحتقان داخل المجتمع وتطويق بؤر التوتّر، والتوجه إلى مصادر العنف -كالفقر والتهميش والظلم- لتجفيف منابعها، وبالتالي رفع مستوى السلمية داخل المجتمع. على العكس من هذا؛ كل ما نراه اليوم هو إجراءٌ وراءَ إجراءٍ يرفع الاحتقان، ويزيد الضغط على المجتمع بتزايد الانتهاكات لأبسط حقوق الإنسان، ويدقّ الإسفين بين مكونات الشعب الواحد، والتصرف -خاصة في سيناء- وكأنّ القصد دفع الناس إلى العنف الأقصى والانضمام للإرهاب وليس محاربته. ما تفضحه هذه الظاهرة ليس قصورا في فهم السياسة بقدر ما هو قلبها رأسا على عقب، لكي يصبح معناها القدرة على تطويع كل إرادة بأعنف وأخبث وأقذر الوسائل. الأخطر من محاولة قتل السياسة، توغّلُ النظام المصري في ''سياسة'' الموت. إن المناظر المرعبة التي تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي حول تصفية مدنيين في سيناء، تذكّر بالكيفية التي صُفّي بها اعتصام ميدان رابعة، وبالكيفية -التي لا تقل عنها بشاعة- في التعامل مع آلاف المعتقلين الذين تكتظّ بهم سجون مصر. يبقى السؤال الأهمّ: ما عواقب موت السياسة وسياسة الموت في مصر؟ إنها بديهية لكل من يعرف التاريخ أو لا يتجاهله. أول درس لهذا التاريخ هو عبثُ محاولة قتل السياسة. هي في كل الحالات والعصور تتواصل خارج المنظومة المغلقة بتجمع كل قوى المعارضة، وأحسن عامل لتوحيدها أخطاءُ وخطايا منظومة تعيش وهْم قدرة السيطرة بالعنف على كل المشاكل. هي تتواصل داخله وبالرغم عنه، كل ما في الأمر أن الحوار والتفاوض والبيع والشراء يقع همسا وفي كنف السرية، والهدف القضاء على نظام جنّ جنونه لأنه أصبح يعمل ضدّ مهمته الرئيسة التي وُجد من أجلها، أي خفض العنف والاحتقان إلى أقصى درجة ممكنة. ثاني درس للتاريخ أن ''سياسة الموت'' ترتدّ دوما على أصحابها وفق القانون الذي سنّه السيد المسيح: ''من عاش بحدّ السيف مات به''. ثمة أيضا المقولة الرومانية المحمّلة بسخرية مريرة: يستطيع الطاغية أن يقضي على كل أعدائه لكنه لا يستطيع القضاء على من سيخلفه. ومن الحِكَم أيضا -التي ينساها كل طاغية- مقولة: من يزرع الريح يحصد العاصفة. فالقانون التاريخي يقول إن ''سياسة'' الموت لم تحفظ أي نظام عنيف من السقوط، لأن قوانين العالم تجعله يضعف بكل ضربة يوجهها لخصومه الحقيقيين والوهميين. هو بوسائل سياسة الموت مثل طبيب جاهل يفرط في وصف المضادات الحيوية، فيقتل الجراثيم الخبيثة المضرة بالجسم وأيضا بالميكروبات الصالحة لتوازنه، لكنه يصطفي الجراثيم التي تظهر مناعة ضد الدواء فتتكاثر لتسفيه الطبيب وتعجيزه. إنها ورطة الاستبداد في كل مكان وزمان. هو يقضي بالتعذيب والقتل على أضعف حلقات المعارضة، ويخلق وضعا يعتقد أنه في صالحه. لكنه يصطفي -من حيث لا يعلم- أشرس وأقوى المعارضين، وكلما رفع درجة القسوة اصطفى الأقوياء من بين الأقوياء، إلى أن ينتهي بخلق كل الآليات والظروف والأشخاص القادرين على تصفيته. لقائل أن يقول: كيف لا يتعلم الطغاة أبدا من دروس بديهية؟ وكيف لا تتطور السياسة كما يتطور الطب.. أي بالتعلّم من الأخطاء؟ هنا لا بدّ من التذكير بمقولة ألبرت آينشتاين: ''الغباء ليس أن تخطئ وإنما أن تتصورّ أن تكرار نفس الأخطاء يمكن أن يؤدي إلى نتائج مختلفة". مشكلة النظام المصري اقتناعه بأن الأخطاء القاتلة التي ارتكبها معمر القذافي أو نيكولاي تشاوشيسكو -والتي يكررها هو- يمكن أن تؤدي إلى غير النتائج التي أدت إليها في ليبيا أو في رومانيا، وما أكثر الأمثلة! من القائل: لكل داءٍ دواءٌ يُستطبّ به ** إلا الحماقة أعيت من يداويها المصدر: الجزيرة