لا أحد يجادل في أهمية إعادة بناء العقل الشبابي داخل مجتمعنا وتجديد نمط التفكير لديه ، ولا يتسنى ذلك إلا بدفع الشباب للانخراط في حركية امتلاك مهارات التفكير النقدي ، لما ينتج عن ذلك من استقلالية للشخص و تنمية للتفكير العلمي لديه ، وما يؤسس له من تقوية البناء الداخلي للأحزاب والهيئات النقابية ، ومن خلالها رفعٍ مستوى الأداء المجتمعي والسياسي للأمة ، بتوسيع رقعة الاجتهاد بين فئاتها خاصة الشباب في مختلف مواقعهم داخل هذه الهيئات أو خارجها . إن هيئاتنا الحزبية والنقابية ، كما تتوفر على أفراد فاعلين في بناء التصورات و تنزيلها ونقدها وتجديدها ، فيها أيضا نوع آخر من الأفراد الخاملين فكريا وعمليا . ساهمت في انتاجهم جوانبُ النقص في أنظمتنا التعليمية والاعلامية التي تُخَرِّج أفرادا مستهلِكين معرفيا وحركيا ، ويكرِّسُه ضُعفُ الأداءِ الحزبي والنقابي في النقد والديمقراطية الداخلية ، وضعفُ توفير ظروفِ التطوير الذاتي و المنافسةِ الشريفة بين الأعضاء في تولي المسؤوليات وإنتاج المبادرات . فأصبحوا لا رأي مستقِلَّ لهم ، ولا اجتهاد في القضايا المطروحة على الساحة الوطنية يساهمون به من داخل هيئاتهم ، فتراهم يتقلبون في المواقف تبعا لتغير مواقف الآخرين دون حضور لتميزهم واستقلاليهم . هؤلاء الافراد اختاروا لأنفسهم دورا محدوداً على هامش الأحداث ، إذ كُلُّ همهم أن يدافعوا باستماتة بعلم أو بغير علم على مواقف شخصية لشخصيات نافدة داخل هيئاتهم قد تُصيب و قد تُخطأ ، ضَنًّا منهم أنهم بذلك يناصرون الخط العام لتنظيمهم وأدائه . هؤلاء الذين ما فتئوا يدافعون عن أشخاص مُعينين وأيِّ موقف يَصدر عنهم كأنه ملزمٌ للجميع ، تراهم في كل مَرة يُنَقِّبون في الحفريات عن بعض الأدلة المشتَّة هنا وهناك ، دون أدنى ترابط منطقي أو منهجية علمية في البحت ومعالجة المعلومة وإعادة انتاجها ، فيُسيئون أكثر مما يصيبون ويُفسدون من حيث ضنوا أنهم يصلحون . تراهم يَحشرون أنفسهم في الدعاية لهذا الرأي أو ذاك بعصبية دون بينة أو علم حتى قبل اتخاد مواقف رسمية من طرف هيئاتهم . بعض هؤلاء هلَّل وطبَّل ودافع باستماتة عن استيراد النفايات مؤخراً ، وسمَّوْها ظلما و بُهتانا " طاقات بديلة " و حَشَروا أنفسهم في مهام واختصاصات اللجان العلمية ، فأصرُّوا أن لا خوفٌ علينا من نفيات الطاليان واستكبروا استكبارا ، ولم يدركوا أنهم بذلك بدأوا يبدِّلون نعمة الله كفرا (كفر بالنعمة وليس بالله ) ويستبدلون الذي هو أدنى (النفايات) بالذي هو خير ( نعمة الطاقة الموجودة لحد الان وان كانت لا تخلو من اضرار بيئية إلا انها أقل ضررا من حرق النفايات الايطالية ) و لم يخجلوا من شماتة الأعداء فينا وقد أصبحنا أضحوكة بين شعوب العالم . كان بإمكانهم الإستغناء عن كل ذلك لو سألوا أنفسهم سؤال المتأملين : كيف نُصدِّر الخيرات للغرب بشروطهم الدقيقة والمُشدَّدة ( اذ يَحدُث أن يُرجعوا لنا شحنات من الليمون الممتاز بمجرد اكتشاف حبة واحدة فاسدة بها لتُوَجَّه بعدها إلى أسواقنا الأسبوعية )، وهم يصدِّرون لنا عجلاتهم المستعملة وأخطر النفايات المطاطية و كل ما يمكن أن يسيء الى بيئة ايطاليا بشروط مُيَسَّرة حد التساهل ، لتُحرَق عندنا مسببة اضرارا بالغة لرئاتنا البيولوجية (الرئتين) والايكولوجية (الغابات) وما يُحدِث ذلك من اختلالات صحية وبيئية وهم يبررون ذلك بكونها طاقة أقل تكلفة ؟ ! كل هذا حدث من طرف البعض في توازن غريب . ثم فجأة يصل الملف الى الانعراج بصدور مواقف رسمية لعدد من الاطراف السياسية ضد استيراد هذه النفايات ، وطبعا بعد اسْتِعَار موجةِ غضبٍ وسخَطٍ شعبيٍّ صاحبَته ظهورُ حقائق صادمة بشأنها . فترى أولئك المباركين في الأول ينعطفون بسرعة مع أول منعرج ، ليُغيروا الاتجاه 180 درجة !! كأنهم لم يهاجموا قبل أيام معدودة القريبَ والبعيد على رأيٍ رآه غيرهم ! ذكرني هذا الانعراج المخجل بانعراج آخر مخزي غير بعيد عنه زماناَ ، مع اختلاف في موضوعي الانعراجين وسبب وهدف ومنحى كل واحد منهما . إنه الانعراج الآثم لبعض النقابات والأحزاب يوم التصويت في مجلس المستشارين على قوانين التقاعد وما واكبه من تدمر كبير في صفوف الشغيلة وما أسقطه من أقنعة مستعارة لبعض الهيئات والشخصيات . فتساءلتُ : كيف تُصدَم الشغيلةُ في مثل هكذا تغييرٍ للموقف بشكل مفاجئ دون مبرر وهي تَعْلم عِلم اليقين أن المِقْوَدَ مُند عقود ضل لصيقاً بأيدي شخوص آليةٍ تُوَجَّه عن بعد بالتيليكموند وهم ساكتون ؟ !أفنَنْتظرُ غيرَ ذلك منهم ؟! يا من ابتليتم بالخمول و الخنوع و التطبيل ، إنكم بسِلبيتكم واعتماديَّتِكم في التفكير والعمل ، و بهَجْركم النقد والاجتهاد ، تصبحون وَقُودا لحُروقِكم و جِسراً للوبيات التحكم . ويا من رحَّبتم بنفاياتهم أمس ثم استنكرتموها اليوم ، تعلَّموا الدرس وخدوا العبرة ، وكفى من الانعراجات المخلة ، فقد وصل السيل الزبى ، فإن لم تقدروا على إنتاج آراء و اجتهادات تليق بآدميتكم ، فتمهلوا حتى تعرفوا المواقف الرسمية لهيئاتكم ، إن المواقفَ تُبنى قبل أن تُتَبنَّى . تُبنى بعلمية البحث والحوار والنقد البناء ، ثم تُتَبَنَّى بَعد ذلك ليخرج كلُ تيار بتصور ناضج يطرحه للنقاش والتدافعِ وهو مقتنِع بنسبية الحقيقة فيه . ليُحسَم الجَدلُ المجتمعي مرة أخرى بالحوار ومقارعة الحجة بالحجة بعيداً عن التعصب والاستقواء ، بحثا عن الأصوب والأصلح والأكثر بُعدا عن الخطأ . فمهما بلغ اجتهاد الأشخاص والهيئات في درجات الصواب ، يبقى فيه جانبٌ كبير من الخطأ والعكس صحيح . لأن المعرفة الإنسانية في عمومها تبقى نسبيةً وإن كانت علمية ، وهي في تطورها إنما تنتقلُ من خطأ إلى خطأ أقل منه. لدى وجب علينا الانخراط في حركية نقدية بناءة داخل هيئاتنا ، كإحدى أسس الإصلاح داخلها و أهم مرتكزات الاستقلالية والإنتاجية داخل المجتمع .