قي سنة 2015 ،نشرت مجلة دير شبيجل"الألمانية حوارا مع هنري كيسنجر يحمل عنوان: «هل نحن بنينا نظاماً عالمياً عن طريق الفوضى؟».يدفع هذا العنوان القارئ إلى استحضار نظرية الفوضى"، أو ما يتكرر التعبير عنه في مختلف وسائل الإعلام ب "الفوضى الخلاقة"التي استفاض الكثير من الباحثين الغربيين وغيرهم في تحليلها وتفسيرها و الكشف عن وظيفتها ودورها ومخاطرها على السياسة الخارجية والعلاقات الدولية خدمة لإستراتيجية القوى العظمى ومصالحها . يدفع هذا العنوان قارئه إلى استحضار نظرية "الفوضى الخلاقة"التي قام بصياغتها الأولية الخبير "مايكل لادين" أحد أبرز المختصين في الدراسات الإستراتيجية في معهد «أمريكان إنتربرايز»، الذي كان الرئيس جورج بوش يلتجئ إليه للاستفادة منه في صياغة رؤيته الإستراتيجية للتعامل مع قضايا الشرق الأوسط و الحروب والنزاعات والتحولات الإقليمية، كما أن هذا الخبير قد تم تكليفه بوضع خطة لتغيير هوية دول منطقة الشرق الأوسط، من داخلها سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً خلال عشر سنوات. لقد نسبت"نظرية الفوضى الخلاقة" خطأ إلى كوندوليزا رايس ، وارتبطت باسمها، لأنها كانت ترددها في مناسبات عديدة. وقد وضعت هذه النظرية موضع تطبيق في الشرق الأوسط في سياق أحداث عام 2011. وتكمن أهمية هذا الحوار مع هنري كيسنجر في أنه كان وزيراً للخارجية الأمريكية، ومستشاراً للأمن القومي في عهدي الرئيسين نيكسون، وجيرالد فورد، وأنه لا يزال حتى اليوم يسدي النصائح ، ويقدم الاستشارات لرؤساء، ووزراء خارجية الولاياتالمتحدةالأمريكية، كما أنه هو الذي أعاد تشكيل وهيكلة مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض ، الذي تأسس في عهد الرئيس هاري ترومان عام 1947، حيث كان الخبراء الأمريكيين ينعتون هذا المجلس عندما كان كيسنجر يتولى رئاسته بكونه الجهاز الذي يتحكم في شؤون العالم... لقد أقر كيسنجر في حواره هذا مع مجلة « ديرشبيجل» بأن العالم يعيش اليوم، حالة من اللانظام أكبر مما مضى. ويعني اللانظام الفوضى،. واستطرد كيسنجر قائلا "تسود اليوم في العالم فوضى تهدده، وذلك راجع إلى انتشار أسلحة الدمار الشامل،كما يعود ذلك إلى وجود إرهاب عابر للحدود منفلت من قبضة الدولة، حيث لاتوجد سيطرة حكومية عليه.وما يجري في ليبيا اليوم خير دليل على ذلك. وفِي حالة تفشي هذا النوع من الفوضى في العالم، سيستفحل اللانظام في العالم، حيث إن الدولة ، كبنية سياسية، ستصير محط هجومات". كما أوضح كيسنجر أن النظام العالمي المستقر اليوم، الذي تحكمه قواعد محددة، كان قد تأسس بعد حرب الثلاثين عاماً، التي انتهت بعد معاهدة وستفاليا عام 1648، التي أقرت مبدأ سيادة الدولة على أراضيها، كما أنها خلقت نظام توازن القوى، المفقود اليوم. وعندما سأله محاوروه: هل يحتاج العالم اليوم إلى حرب تدوم ثلاثين عاما أخرى لإقامة نظام عالمي جديد؟ رد عليهم كيسنجر بالسؤال الافتراضي التالي: وهل نحن بنينا نظاماً عالمياً عن طريق الفوضى؟ لم يحدث ذلك فعلا، ما يقتضي من القوى العظمى أن تفكر في تطوير آجندة مشتركة بينها وبين الدول الأخرى، وأن تلتزم بالحكمة في تصرفاتها لتجنب نشوب حرب ثلاثين عاماً أخرى". هكذا، فقد أقر كيسنجر أن الفوضى هي المسؤولة عمّا أسماه "بحالة اللانظام الدولي"، السائدة حالياً، وأن أخطارها لا تهدد مناطق إقليمية معينة فقط، بل إنها تهدد العالم بأسره.. لكن الفوضى كما أقرت بذلك مراكز دراسات أمريكية مهمة ومتخصصة ، تعبر عن قصر نظر بعض السياسيين والمفكرين والكتاب وانجرافهم وراء،تصورات وأفكار اعتقدوا أنها كفيلة بالحيلولة دون بروز قوى إقليمية قادرة على الانفلات من يد القوى العظمى، حيث يعتقدون أنه في حالة حدوث ذلك ، ستنافس هذه القوى الإقليمية القوى العظمى إقليمياً ودوليا، إذ يعرف العالم تحولات تؤكد إمكانية بروز قوى إقليمية قادرة على امتلاك إمكانات المنافسة. ويكشف قصر النظر عن وجود رغبة لدى هؤلاء السياسيين والمفكرين في الوقوف في وجه تيار تاريخي جارف، ما يعني أنهم لا يأخذون بعين الاعتبار سنة الحياة وقاعة الصعود والهبوط التاريخيين للقوى العظمى في كل حقبة زمنية. هكذا، فإن السؤال الافتراضي الذي طرحه كيسنجر "هل نحن بنينا نظاما عالميا عن طريق الفوضى؟ "يسلط الضوء على ما فعلته وتفعله القوى العظمى التي صنعت وتصنع الفوضى أو ما يسمَّى ب "الفوضى الخلاقة"...