اَلْإِعْفَاءُ .. اَلصَّدْمَةُ ! خمسة أشهر من المشاورات المتقطعة، والبلوكاج المستمر، عاشها المغرب السياسي، منذ تعيين الملك محمد السادس السيد بنكيران لتشكيل الحكومة بعد نتائج انتخابات السابع من أكتوبر.. خمسة أشهر من المناورات، والمناكفات، والتكهنات، وشُغْلِ الْعَرَّافَات،... والحال على حالها، وأزمة تشكيل الحكومة تشتد على السيد بنكيران، وبوادر انفراج لا يلوح منها شيء؛ حتى تدخل الملك بقرار إعفاء السيد الرئيس المكلف من مهمة تشكيل الحكومة، وتعيينه لشخصية أخرى من نفس الحزب، في ظرف قياسي واستباقي لم يترك لساسة البيجيدي، ومناضليه، فرصة لِلَمْلَمَة الوضع الجديد، وفهم ما يجري حوالَيْهم، وكأن زلزالا مدمرا حلَّ بِساحِهِمْ، وأوقف عقولهم عن التفكير. حتى السيد الرئيس، الذي صرح، لاحقا، أنه قد صُدِم من هذا القرار بعد أن أُبلِع به من طرف مستشاري الملك، لم يستطع أن يُلَمْلِم تفكيره، ويعِيَ ما حواليْه، وكأن ملايين الأفكار تتداعى إليه تَتْرًا، تُشوِّش على عقله السياسي التفاوضي الكبير فتُحيلُه إلى عقل طفل صغير لا يَلْوي على شيء. فكان أول قرار يصدر عنه أن يدعوَ مناضلي الحزب إلى عدم التعليق على البلاغ الملكي، خوفا من تداعي "غضبة الملك" إلى ما هو أشد من الإعفاء. وهي حالة نفسية عادية أن يشعر بنظيرها من كان في قمة المسؤولية ثم رُمِيَ به إلى السفح دون سابق إعلام. إنها صدمة عنيفة، حلت بالحزب الحاكم وهزت أركانه، والأصعب منها أنها جاءت في وقت كان السيد الرئيس المكلف يُمَنِّي نفسه وإخوانه بقرب انفراج الأزمة، وانفكاك عقدة "البلوكاج". وهي الأمنية التي غطت على كل تصريحاته الأخيرة. بل وصل به الحال أن يجزم، في أحد لقاءاته الأخيرة، بأن تشكيل الحكومة بالشروط التي يُفاوض بها، على قاب قوسيْن من التَّشَكُّل، مما جعل أغلب المتتبعين يستنتجون أن ثمة إشاراتٍ مَا ترِدُ على السيد الرئيس المكلف تُطَمْئِنه إلى قرب انفراج الأزمة. خصوصا وأن مسألة التحكيم الملكي هي التي كانت الأقرب أن تكون عنوانا لتدخل ملكي لفك "البلوكاج" الحكومي. ولم يكن السيد بنكيران، ولا أحد من أتباعه، حتى الأشد منهم تشاؤما، يظن أن النهاية ستكون بهذا الأسلوب الصارم، الذي لم يُبْقِ للسيد الرئيس، الملكي حَدَّ النخاع، مجالا لفهم ما يجري، وقدرة على استيعاب حجم هذه الصدمة غير المسبوقة وغير المنتظرة، رغم أن قراءات سابقة لمحللين سياسيين كانت تضع هذا السيناريو ضمن سيناريوهات أخرى ممكنة، وكان رد زعماء البيجيدي صارما وحاسما، وغير قابل للنقاش حينما كانوا يعتبرون ألا بديل عن السيد بنكيران إلا المعارضة، أو انتخابات سابقة لأوانها!. على خُطَى بنكيران..! ففي بلاغ الأمانة العامة للحزب الذي أعقب صدور البلاغ الملكي، تأكيد مقصود على المبالغة في تثمين التزام الملك بالاختيار الديمقراطي المنسجم مع مقتضيات دستور المملكة، باختياره للرئيس الجديد من نفس الحزب الذي حصل على المرتبة الأولى، وهو أهم ما يثير قارئه. وكأن مُدَبِّجيهِ قصدوا من ذلك بعث إشارة عميقة إلى من يهمهم الأمر مفادها: لو لم يتم الالتزام بهذه المنهجية الديمقراطية لكان للحزب كلام آخر!. ولقد حاول قادة الحزب أن يذهبوا بعيدا في التشاور حول هذا المستجد الصادم، باستدعاء برلمان الحزب، الذي لم يملك إلا أن يطأطئ الرأس لقرار الملك، و"مباغتته" التي سبقت انعقاده، وإن عرف الكثير من المداخلات الغاضبة، التي حاولت أن ترفع سقف الشروط والمواجهة إلى أقصى حد، بتوجيه رسالة واضحة إلى من يحصرون الأزمة في السيد بنكيران، بسبب شروطه الصارمة أثناء المفاوضات. وهو ما ألمح إليه بلاغ المجلس، في لفتة محتشمة، حينما أكد على اقتناع أعضاء المجلس التام " بحسن تدبيره للتفاوض من أجل تشكيل الحكومة". بما يعني أن شروط بنكيران هي نفسها شروط الحزب، وهي ذاتها التي سيفاوض عليها السيد العثماني بما فيها الموقف الصارم من مشاركة حزب "الوردة" في الحكومة، والذي مثَّل أحد أهم معرقلات تشكيل الحكومة السابقة. حزب "الوردة"، الخط الأحمر..(!) ولعل تشبت أغلب مناضلي الحزب بهذا الشرط المُفرمِل لمسار تشكيل الحكومة في جولتها الأولى، بما فيهم بعض زعماء الصف الأول، يحيل على أمرين مهمين: الأول: رد الفعل على الصدمة التي تلقاها مناضلو الحزب ليلة الاربعاء والتي أرخت بظلالها على فعاليات المجلس. فلم يكن لمناضلي الحزب، رغم تهدئة الأمانة العامة، ومحاولتها امتصاص غضب القواعد من خلال تبني التعامل الإيجابي مع البلاغ الملكي، إلا أن يفجروا هذا الغضب على من اعتبروهم المسؤولين الحقيقيين على "البلوكاج" الحكومي ومن تم على إعفاء الزعيم. فكان موقف غالبية الأعضاء هو الاستمرار على ذات النهج الرافض لمشاركة حزب "الوردة" في رسالة واضحة إلى كل من يهمهم الأمر من المسؤولين عن "البلوكاج". وهو الامر الذي ألمح إليه البلاغ الصادر عن المجلس الوطني حينما عبر "عن اعتزازه بالمواقف التي عبرت عنها الامانة العامة خلال مختلف مراحل تتبعها للتشاور من أجل تشكيل الحكومة"، ومنها الموقف من مشاركة حزب "الوردة". وكأن لسان حالهم يقول: إذا كان السيد بنكيران هو المشكل، فموقف الحزب لن يتبدل، ونحن مستعدون للذهاب في هذا الملف إلى النهاية( !!!). وهي المراهنة التي لن يحلم بها صقور الحزب مع شخصية مثل سعد الدين العثماني. الثاني: بعث رسالة إلى من يهمهم الأمر مفادها أن الحزب هو حزب مؤسسات، وأن كل ما يثار من أن السيد بنكيران هو المسؤول عن "البلوكاج" الحكومي لا أساس له من الواقع، ولا من الحقيقة. فما يعتبره البعض من أهم الأسباب التي فرملت تشكيل الحكومة، وهو رفض بنكيران دخول حزب "الوردة" إلى الحكومة، هو قرار صادر عن مؤسسات الحزب، ولا علاقة له بالسيد بنكيران الذي أكد بلاغ الامانة العامة على براءته من هذا "البلوكاج". لذلك أصر غالبية مناضلي الحزب على ضرورة الاستمرار على نفس النهج الذي سار عليه السيد بنكيران في المفاوضات، والتزام نفس الشروط التي واجه بها السيد بنكيران مفاوضيه، في محاولة لوضع مفاوضي الرئيس المكلف الجديد السيد سعد الدين العثماني، الذين أسرعوا إلى مباركته على الثقة الملكية وتعبيرهم عن الاستعداد للتعاون معه، أمام مَطَبٍّ حقيقيٍّ؛ إما القبول بالشروط السالفة، وفي هذه الحالة إعلان براءة السيد بنكيران مما نسب إليه من المسؤولية على "البلوكاج" الحكومي، وإمَّا الاستمرار في رفضها، وفي هذه الحالة عودة "البلوكاج" إلى المربع الأول، واحتمالية تدخل الملك للتحكيم مما سيرفع من أسهم العدالة والتنمية في عملية التفاوض، وسيُنزِل المنافسين إلى الطاولة على قاعدة شروط الحد الأدنى، تحت طائلة دخول المغرب في أزمة سياسية غير مسبوقة. وهو سيناريو مستبعد جدا، ما دام الهدف من المجيء بالسيد العثماني هو تشكيل الحكومة وفق شروط المخزن لا شروط الحزب. وهو، حسب اعتقادنا، الأمر الذي سينجح فيه السيد العثماني، أو بالأحرى سيُعان على النجاح فيه. بلاغ بطعم الاستسلام ..! رغم حرارة النقاش التي عرفها المجلس الوطني، حسب ما ورد في أغلب التسريبات لمناضلين حضروا فعاليات هذا المجلس، لم يترجم بلاغ المجلس، الذي تلاه السيد يتيم، هذه الحرارة، وجاء مبهما يحتمل أكثر من قراءة، ويحيل على أكثر من فهم. كما جاء، على خلاف حرارة النقاش الذي عرفه المجلس، باردا، وهادئا هدوءَ الرئيس الجديد المعين، مما ينذر بولوج الحزب إلى مرحلة جديدة من المَوَات السياسي؛ عنوانها السكون، والانبطاح، والتطبيع مع التحكم، والتماهي مع واقع حزبي هزيل ومهترئ. ومن أهم مؤشرات ذلك نجاح فصيل العثماني، من حمائم الحزب، في امتصاص غضب القواعد، ودفعهم إلى المصادقة على تسليم القِيَاد إلى الأمانة العامة لمباشرة الإشراف على المشاورات الجديدة وفق المنظور الجديد، الذي، لا شك، سيعرف سلسلة من التنازلات لصالح خصوم الجولة الأولى للمفاوضات، مما سيدخل الحزب، على غرار حزب الزعيم بوعبيد، إلى ثلاجة النسيان، بعد أن يُنهي مساره في دواليب الحكم، ويُحال وجوده الاعتباري إلى عدم، ومشروعه إلى خبر كان!. وهو سيناريو لا يرضاه أي ديمقراطي حريص على انتشال الواقع السياسي المغربي من الاهتراء والتَّرهُّل والتبخيس الذي يتخبط فيه!... دمتم على وطن..!!