الإنسان المتبصر في الأمور والقارئ الجيد للواقع وبين السطور لا يرتكب أخطائا ولا يقع في المحظور ,إنما يسعى دائما إلى تطهير ذاك الواقع المشؤوم من الجذور... والمتبصرون في الأمم قلة ,فالتبصر في زمان القتنة محنة ما بعدها محنة وفي زمان المحنة فتنة ما بعدها فتنة. إن قرار مقاطعة الإنتخابات المزمع إجرائها أواخر الشهر القادم ليس قرارا عدميا أو رجعيا كما قد يعتقد البعض أو عزوفا سياسيا وقطيعة مع المجتمع كما فد يتصور البعض الاخر ,فالمقاطعة أيضا من السياسة وهي شكل من أشاكلها وسلوك مُعتمد حتى في الدول الأكثر تقدما في عصرنا الحالي . وقد يُجادل البعض في أن المقاطعة قد تفتح المجال واسعا للفاسدين المفسدين وتُقدم لهم الجَمل بما حمل دون مشقة ولا كلل,ولكن الحقيقة مُعاكسة تماما كما سنبين ذلك لاحقا,ثم إن المقاطعة شيء والتأطير السياسي والحضور الفعلي داخل المجتمع المدني شيء اخر . ويمكن أن نجمل أسباب مقاطعة الإنتخابات التشريعية من خلال أربعة محاور :
من الناحية التاريخية
في حقيقية الأمر, إن سياسة المقاطعة ليست حديثة العهد بل لها جذور منذ أن بزغ فجر الإستقلال ,ففي سنة 1962 إتخذت اللجنة المركزية للإتحاد الوطني للقوات الشعبية التي كانت تتكون أنذاك من المهدي بن بركة والفقيه البصري والمحجوب بن الصديق ,قررت مُقاطعة الإستفتاء الوطني ورمت بورقة المُقاطعة التامة له شكلا ومضمونا ومنهجا ,بعدها بأقل من عشر سنوات أعلنت الكتلة الوطنية التي كانت تُشكل تكتلا بين حزب الإستقلال والإتحاد الوطني للقوات الشعبية مقاطعتها التامة والكاملة للإستفتاء على الدستور وزادت على ذلك من أن قاطعت بعدها الإنتخابات بأكملها مُشاركة وتصويتا ,ولم يبق الأمر على ذلك طويلا فبعد سنتين فقط عرض الملك الراحل الحسن الثاني دستورا جديدا قاطعته بعض أحزاب المُعارضة. فما نراه هنا أنه حتى الأحزاب التي أعلنت مُشاركتها في الإنتخابات الحالية قد قاطعتها سابقا كحزب الإستقلال الذي قاطعها عام السبعين من القرن الماضي ,فالمقاطعة تاريخا في بلادنا موجدة ومنطقية ,والأسباب التي من أجلها دعت تلك الأحزاب تاريخيا إلى المقاطعة ما زلنا نرى أنها موجدة رُغم بعض الإصلاحات التي لا نُنكر وجودها وحصولها.
من الناحية السياسية
رغم إقرار دستور جديد ,ورغم الوعود التي قُدمت فإن الوضع الذي ساد قبل إقراره هو نفسه حاليا,فالواقع يشهد أنه لا شيء قد تغير وأن الوضع مع زال على حاله وحقيقة الأمر أن أي إصلاح كيفما كان لن ينجح إلا بأمران ,أولهما هو أن يتم الإسراع بمُحاكمة الظالمين وثانيهما أن يتم الإسراع برد الحقوق للمظلومين والعفو عنهم إن هم إعتقلوا ظلما ,وهذا الأمر لم يتم على الإطلاق لا قبل الدستور الجديد ولا بعده ,بل ما زاد الطين بلة هو العكس تماما ,فقد شاهدنا بأم أعيننا كيف هنئء الظالمون أنفسهم بالدستور الجديد ودخلوا في تحالفات للفوز في الإنتخابات المُقبلة وكيف تم في الجانب الاخر تعذيب المُعتقلين بل وإدخال المزيد إلى غياهب السجون تارة بإسم الإرهاب وتارة بإسم خرق بنود الصحافة !!! وأكثر من هذا فإن وزارة الداخلية ما زالت هي المُخولة للإشراف على الإنتخابات ومراقبتها ,ورغم كل الإنتقادات الموجهة إليها طيلة الخمسين أو الستين سنة الماضية بسبب تدخلاتها المباشرة وغير المباشرة في إقرار الفائزين وفي التقطيع الترابي للإنتخابات بالإضافة إلى وضعها لنفس اللوائح الإنتخابية السابقة ,رغم كل هذا فإن الداخلية ما زالت تُشرف بنفسها على الإنتخابات التشريعية. ومن ناحية أخرى ,ما زال الدستور الجديد يُعطي للولاة و العمال فرصة كبيرة للتحرك وإتخاد القرارات المهمة حتى دون أن يعود إلى المجالس البلدية للمشاورة وأخد الرأي وإن تم فهو مُعلم غير مُلزم,فما جدوى إنتخاب المجالس البلدية من الأصل ؟؟
من الناحية الإجتماعية
إن المغرب يُعاني من عدة مشاكل إجتماعية لعل أبرزها الأمية والفقر ,وقد تحدثت اخر الإحصائيات على أن نسبة الأمية قد بلغت ما يقارب الأربعين في المائة,فإن كان نصف الشعب لا يعرف حتى أبجديات القراءة والكتابة فكيف سيتمكن من تحليل البرامج الحزبية التي فاق عددها أزيد من ثلاثين برنامجا ,وبعدها يختار الأنسب من كل تلك البرامج !!!,فإن كنا نُعاني معه عاما كاملا لينطق حرف "الألف " بشكل صحيح دون خطأ .فكم سيلزمنا من الوقت لنُعرفه ببرنامج حزب سياسي واحد ,هذا بالتأكيد دون أن ننصحه بدراسة تاريخ كل حزب !!! فمشكل الإنتخابات السابقة سيبقى نفسه مطروحا في الإنتخابات المُقبلة ,والذين إستغلوا أمية الكثيرين في الماضي سيستغلونها بكل تأكيد في المستقبل القريب... أما نسبة الفقر في المغرب فهي أيضا جد مرتفعة ,ومن المعلوم لدى أغلب السياسين والمُحللين أن المال والنفوذ يلعبان دورا أساسيا بل وحتميا في حسم نتيجة الإنتخابات حتى في الدول المتقدمة والديموقراطية "الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا" فكيف بالمغرب الذي يعيش الكثير من أبنائه تحت أقل من دولارين في اليوم الواحد . ومن دون أدنى شك فإن هنالك الكثيرين من المُنتَخَبين من سيُقدم أمولا طائلة للفوز في الإنتخابات ,ومن دون أدنى شك أيضا سيجد الأيادي الكثيرة تكاد تخطفه من أجل لقمة عيش له ولأبنائه الذين لا يعرفون أمرا عن شيء إسمه إنتخابات ولا يدخل في عقولهم مصطلح من قبيل نزاهة أوإستقلالية .
من الناحية الدينية
إن المسلم العامل لا يتبع طريقا واحدة للإصلاح , إنما عليه أن يُحلل المسائل جيدا ويختار الأنسب بنائا على قراءة جيدة وحكيمة للواقع وفي كل الأمر خير للمسلم ,فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأحد إِلاَّ لِلْمُؤْمِن" (صحيح مسلم ص :417 ),وعلى المسلم أن يقرأ التاريخ والواقع جيدا وبعدها يوازن و يُحلل ويرى هل في مشاركته من مصلحة أم أن الأمر يلزم مُقاطعة لما فيه خير للأمة وطنا وشعبا ...
وهنالك قاعدة فقهية أوضحها شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله حين قال :" فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية، والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع واجبات، ويفعل محرّمات" والقاعدة هنا تؤكد على أن هنالك واجبات يحول دونها ما هو أوجب منها أو يحول دونها مفسدة أعضم منها ,ومقاطعة الإنتخابات تمشي في نفس هذا السياق وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان منافقوا المدينة ينشرون الأخبار الكاذبة ويتحالفون مع كفار قريش ويُدبرون الدسائس للنبي صلى الله عليه وسلم حتى وصل الحد إلى زعيمهم وكبيرهم عبد بن سلول أن قال" ليخرجن منها الأعز الأذل (يقصد المدينةالمنورة)" ومع ذلك لم يُقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال كلامه المعلوم في مخافة أن يُقال أن محمدا يقتل أصحابه ,فقط قاطع النبي في القصة قتالهم لما سيترتب على ذلك مفسدة أعضم . تلك الأسباب الأربعة دفعت بنا دفعا إلى مُقاطعة الإنتخابات المقبلة وعدم التصويت لأي حزب من بين تلك الأحزاب التلاثين ,وفي نفس الوقت سنستمر في الدعوة سياسيا إلى مغرب حر وعادل وعيش كريم لكل أبناء هذا الوطن الحبيب. وهنالك من سيُجادل في أن المُقاطعة ستفتح المجال للفاسدين أكثر وستُقوي شوكتهم داخل البرلمان والحقيقة مُغايرة تماما . فالمشاركة مع الفاسدين فساد مُماثل وشرعنة لفسادهم ,وما عزوف المغاربة عن الإنتخابات إلا لهذا السبب,فقد رأت كيف أن كل الأحزاب تتشابه فيما بينها وتتسابق على الظفر بمقاعد البرلمان ولا تُحدث تغييرا,ولم ترى ذلك الصوت الذي يُعارض من بعيد يملك برنامجا واضحا للإصلاح ويرفض أن يُشارك الفاسدين في فسادهم . ثم إن المقاطعة ستكون فقط على صناديق الإقتراع,أما على الساحة السياسية والإستقطاب الجماهيري وإضهار الحق من الباطل فسيستمر ومنافسة تلك الأحزاب ستستمر على أن يكون لنا السبق في عدم مُشاركتهم في البرلمان وعدم إتساخ يدنا وإبقائها نضيفة عكس الباقين والشعب يرى ويُلاحض ولا ينسى من ظلمه ولا ينسى أيضا أن يرد الجميل لمن ازره ووقف إلى جانبه مدافعا عن مطالبه ...