تهاوت من ذاكرتنا السمكية أمثال وحكم كان الأجداد يرددونها ونحن صغاراً. هي عصارة لخبرة طويلة تكفي لان تُحَوَّل الى زيت قنديل يضيء الطريق ليرشد الأجيال . لكن هناك مَثَلٌ أقرب الى الحكمة ظل عالقا بالذهن يقول : من لا يَغْبِط يبقى كالقط .. ومعنى القط في هذا المثل لا يرمزالى النزعة العدوانية اتجاه الحيوان ، بقدر ما يرمي الى تحفيز وتحريض المرء على تحقيق الذات والعلوّ بها عوض الإنزواء بها في الحَضيِض انزواء القط تحت مائدة الطعام ينتظر ما تبقى من فتات وعظام . وما دامت الغبطة في معناها الإخلاقي ليست حسدا أوغيرة بقدرما هي تَمَنِّي مثلَ ما عند الغير مِن نِّعمة دون أن إرادة زوالَها عنه ، فإني أغبط مثقفا يدفعني الى وَقْفة إجلال نحوه حينما يتناول موضوعا من مختلف أوجهه فأصغي السمع لاستكمال ما ينقصني من معرفة، وأغبط رجلا وضع كرامته فوق كل مكان حتى لو كان كرسيا يخلف ثروة قارونية . وأغبط مسؤولا قدرالمسؤولية التي تحملها وأعطاها حق قدرها و زيادة ولم يخنها استرضاء لنفسه أو لطرف ما ،و ظل متمسكا بأمانتها حتى ولو تحولت الى جمرة تكوي الجلد لتنفذ الى العمق. وأغبط كاتبا ومفكرا من طرازالمهدي المنجرة الذي قال بأن الإصلاح شبيه بالعملية الجراحية ..كلما تأخرنا في إجرائها ..كلما قلت فرص نجاحها . وأغبط من يقول كلمة حق متحليا بمبدأ الإنصاف والنزاهة ولوعلى نفسه أو بني جلدته من أمثال المفكر الامريكي من أصل يهودي افرام نعوم تشومسكي الذي قال مشيرا إلى الدعم الأمريكي لإسرائيل ،الجميع قلق من الإرهاب ويريد إيقافه ، إذن توقفوا أن تكونوا جزءاً منه . وأغبط رجالا ونساء حين أقرأ سيرهم الذاتية أمثال عمر المختار وعبد الكريم الخطابي وحسن البنا والسيد قطب وزينب الغزالي .. لأنهم آثروا حياة الكرامة أو الشهادة غير عابئين ببطش الجلاد وعقابه . وأغبط أبا لم تسمح له الظروف كي يقرأ لينال ولو حظا متواضعا من التعليم ، لكنه آثر إبنه عَلَى نفسِه رغم الخَصَاصَة فأنفق عليه كل ما يملك ليوصله الى آخر مستوى في الجامعة . وأغبط قزما حثه كبريائه أن يطاول عنان السماء اعتزازا بكرامته . لكني في المقابل لا أغبط بقدر ما أشفق على شخص اطول مني قامة اذا استخدم طول قامته لتقبيل الأحذية . ولا أغبط بقدر ما أشفق على مثقف قرر أن يتحول الى مطية لشبه أمي يعرف القاصي والداني بأنه عراب الفساد في جهة الغرب فيصافح يده الملطخة بنهب أراضي المستضعفين من بني بلدته من صغار الفلاحين ، ولن أصافحه ولوملكوني الأرض بأكملها وليس منطقة الشراردة بني حسن فقط . نعم ، تهاوت من الذاكرة السمكية حكم وأمثال لكن بعضها لا زال يتغذى من تجارب واقعنا المعاش ، فجوعي بكرشي وعنايتي في راسي ، عبارة لم يقلها فرويد أو ديكارت .. بل جدي ذاك الفلاح الذي أثمرت سنابل القمح المسقية بما تقاطر من جبينه من تعب وكد ، وكون أسبع وارى حالك عبارة لم تقلها أغاتا كريستي أو هارييت بيتشرستو.. بل جدتي الأمية ، لكن أميتها لم تحولها إلى أَمَةٍ تخضع للضباع انحناء !!