من نافلة القول التذكير بأن النشيد الوطني لأي بلد كالعلم الوطني، رمز يعبر عن هوية الوطن، وماضيه النضالي، وفيه صورة للمستقبل المنشود. عادة لهذا الرمز خصوصية في نفوس مواطنيه، من حيث التقدير، قد تصل لدى بعض الشعوب درجة التقديس، وخاصة التي يحافظ حكامها ومحكوموها على مضامينه، ويعملون وفق مقتضياته، كل من زاويته. حتى إذا رددوه في المناسبات الوطنية أو التظاهرات الرياضية، رددوه بصدق، في حضرة عدسات الكاميرات أو في غيابها. في هذا الإطار، نتوقف قليلا مع النشيد الوطني التونسي على ضوء الأحداث الأخيرة، التي طوحت بأحد رموز الديكتاتورية في الوطن العربي، خارج تونس متخفيا. وحكمت على الآخر أكثر منه طغيانا وبغيا، بالتخفي في شرم الشيخ تحت حراسة مشددة، و ذلك من خلال جملة من الملاحظات، نوردها كالتالي: معروف أن النشيد الوطني التونسي، كتب أغلب كلماته مصطفى صادق الرافعي: حماة الحمى يا حماة الحمى هلموا هلموا لمجد الزمن لقد صرخت في عروقنا الدما نموت نموت ويحيا الوطن ................................... .............................. فلا عاش في تونس من خانها ولا عاش من ليس من جندها ................................. ............................... وفيها لأعداء تونس نقم وفيها لمن سالمونا السلام ويتضمن هذا النشيد البيتين الشهيرين العابرين للقارات، لأبي القاسم الشابي رحمه الله: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر ترى لو أن بنعلي المخلوع، استطلع الغيب، وعلم أن هذين البيتين سيكونان قاسمة ظهره، و وقود الثورة وحطبها ضده، على لسان كل تونسي متعلم و غير متعلم، خلال الثلاثة أسابيع، التي كانت كافية ليفر خلسة، من الأبواب الخلفية، مذعورا كالجردان. هل كان سيترك التونسيين يرددونه، طيلة عقود حكمه؟ هل كان سيضع يده على قلبه، وهو يردد مع التونسيين النشيد الوطني، مظهرا الخشوع والخضوع، ويرفع صوته أكثر، لما يصل إلى هذين البيتين بالذات؟ ترى ماذا كان يدور في خلده، وهو يهمهم بهذين البيتين اللذين سطرهما الشابي، ببصيرته النافذة منذ مائة عام؟ هل كان يظن أنه كتبهما وبقية أبيات رائعته، لمواطني جزر الوقواق، وليس للشعب التونسي خصوصا ولكل شعب، تسلط عليه طاغية من الطغاة مثله، و حكمه بالحديد والنار، وفرض عليه الليل الأبدي، وكبل مواطنيه بالقيود والأغلال، وسلط عليهم زبانيته يحصون أنفاسه؟ حتى المساجدأصبحت على عهده ببطاقات ممغنطة. بل حتى الأذان لم يسلم من تسلطه، على لسان إحدى التونسيات النكرات، لتدعي أنه يلوث البيئة. تلقف قيئها هذا، أحد وزرائه و تولى الدفاع عن منكرها. حتى سلط الله على كبيرهم الذي علمهم السحر، كما قال أحد الظرفاء، ليجد نفسه مكرها، لما رفض أصدقاؤه في الغرب استقبال طائرته، كما لو أنه أجرب، في قلب الأذان بالعربية السعودية. أم هو عمى الطغيان والبغي، فيظن الطاغية اعتمادا على جبروته، وبطانته السيئة، وترسانته المخابراتية، والوعود الخارجية بحمايته، أنه بمنأى عن الخطر؟ ناسيا أو متناسيا أن الشعوب، مهما أظهرت الامتثال والطاعة، خوفا من البطش والقمع الذي تفنن زبانيته في ممارسته على الشعب التونسي، طيلة مدة حكمه، التي أربت على العشرين سنة ببضع سنوات، لا بد يوما لما "تصل السكين إلى العظم"، أن يتململ المارد في دواخلهم، فلا يأبه حتى للموت. آنئذ كما قال الشابي، لا بد للقيد أن ينكسر، ولا بد لليل أن ينجلي، ولا بد أن يستجيب القدر. وأخيرا، بعد ثلاثة وعشرين سنة من الظلم والقهر، تتحقق النبوءة المبثوثة في النشيد الوطني التونسي، بصريح العبارة: فلا عاش في تونس من خانها ولا عاش من ليس من جنده وفيها لأعداء تونس نقم فهل هناك نقمة أبشع، من أن يخرج حاكم عاش قرابة ربع قرن، جاثما على صدور المواطنين بكله وكلكله، يملك وعائلته أربعين في المائة من اقتصاد البلاد أو أكثر، يبعث اسمه الرعب في قلوب حوالي عشرة ملايين من التونسيين، يخرج على رؤوس أصابعه، يده على قلبه، من شدة الهلع؟ التونسيون بقوا في وطنهم، لأنهم لم يخونوه. بقوا في وطنهم لأنهم من جنوده. فمن الخائن إذن، ومن الذي ليس من جندها؟ ومن الذي تحققت فيه نبوءة النشيد الوطني التونسي، فلفظته البلاد مدموما مدحورا، كما يلفظ البحر الجثت النتنة، ولو بعد حين، حفاظا على نقاوته ونظافته، ومن تم حفاظا على حياة حيتانه ومرجانه وأصدافه؟ عود على بدء لنؤكد أن نشيد أي وطن، ليس كلمات مرصوفة بجنب بعضها البعض، كما ترصف لبنات البناء، بقدر ما هي حيوات متحركة تفعل فعلها مع الزمن. إذا كان هذا بالنسبة لأي نشيد، فكيف بالنسبة لنشيد تونس الذي يتشرف بتضمنه لهذين البيتين، لأبي القاسم الشابي؟ ليتأكد بالملموس أن الأدب وضمنه الشعر لن يكون أبدا في خطر. ولكن ليس أي أدب. قد تنطبق المقولة على الأدب تحت الطلب، فى مدح مثل هؤلاء الطغاة. فيكون مصيره كمصيرهم، في مزبلة التاريخ. أما مثل شعر الشابي هذا، فلا أعتقد أنه سيأتي يوم، يتأثر بتقلبات الزمن وعواديه. بل سيبقى، في كل زمان ومكان، ملاذا للمظلومين، ووقودا للثائرين، وشوكة في حلق الطعاة والجبارين.