تقرير رسمي يرصد تطور أسعار الاستهلاك في مدن شمال المغرب خلال أكتوبر 2024    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    تقرير إخباري: العدالة الدولية تلاحق "أصدقاء الغرب" وتكسر حصانة الكيان الصهيوني    أشرف حكيمي يجدد عقده مع باريس سان جرمان حتى 2029    الرابور مراد يصدر أغنية جديدة إختار تصويرها في أهم شوارع العرائش    انطلاق عملية "رعاية 2024-2025" لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد    بتعليمات سامية من جلالة الملك ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    بعد الإكوادور، بنما تدق مسمارا آخر في نعش الأطروحة الانفصالية بأميركا اللاتينية    ولد الرشيد: رهان المساواة يستوجب اعتماد مقاربة متجددة ضامنة لالتقائية الأبعاد التنموية والحقوقية والسياسية    مواجهات نارية.. نتائج قرعة ربع نهائي دوري الأمم الأوروبية    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    المنتخب الليبي ينسحب من نهائيات "شان 2025"    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    مجلس المنافسة يغرم شركة الأدوية الأمريكية "فياتريس"    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    زَمَالَة مرتقبة مع رونالدو..النصر السعودي يستهدف نجماً مغربياً    التنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب تدعو الزملاء الصحافيين المهنيين والمنتسبين للتوجه إلى ملعب "العربي الزاولي" لأداء واجبهم المهني    تفكيك خلية إرهابية موالية لتنظيم "داعش" بالساحل في إطار العمليات الأمنية المشتركة بين الأجهزة المغربية والاسبانية (المكتب المركزي للأبحاث القضائية)    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو        تفكيك شبكة تزوير وثائق السيارات بتطوان    أسباب الفيتو الأمريكي ضد مشروع قرار وقف الحرب!    لأول مرة في تاريخه.. "البتكوين" يسجل رقماً قياسياً جديداً    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    أداء سلبي في تداولات بورصة البيضاء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    دفاع الناصري يثير تساؤلات بشأن مصداقية رواية "اسكوبار" عن حفل زفافه مع الفنانة لطيفة رأفت    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    زنيبر يبرز الجهود التي تبذلها الرئاسة المغربية لمجلس حقوق الإنسان لإصلاح النظام الأساسي للمجلس    وهبي: مهنة المحاماة تواجهها الكثير من التحديات    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غيرة الزوج بين الأصل الممدوح والقالب المذموم
نشر في أخبارنا يوم 03 - 03 - 2014

الغَيْرة كراهةُ الرجل اشتراكَ غيره فيما هو حقُّه(1)، وهي تشمل بوصفها العامِّ غيرةَ الرجل على نفسه وعلى ذويه وأهله وعلى عموم الناس، والغيرةُ محمودةٌ لأنَّ أصلها كراهةُ القبائح والفواحش والمحرَّمات والآثام وبغضُها، وهي أخصُّ صفات الرجل الشهم الكريم، ولهذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أغْيَرَ الخلق على الأمَّة، والله سبحانه أشدَّ غيرةً منه، قال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:«أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي»(2)، وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في خطبة الكسوف:«يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ»(3)، وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:«وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ»(4)، قال ابن القيم –رحمه الله-: «ولهذا كانت غيرة الله أن يأتيَ العبد ما حرَّم عليه، ولأجل غيرته سبحانه حرَّم الفاحشةَ ما ظهر منها وما بطن؛ لأنَّ الخلق عبيده وإماؤه، فهو يغار على إمائه كما يغار السيِّد على جواريه ولله المثل الأعلى، ويغار على عبيده أن تكون محبَّتهم لغيره بحيث تحملهم تلك المحبَّة على عشق الصور ونيل الفاحشة منها»(5).
هذا، والذي أقصد بهذه الكلمة أحدُ حقوق الزوجة على زوجها: أن يغار عليها من كلِّ أذًى يلحقها من غيره، سواءً بنظرةٍ أو ابتسامةٍ أو كلمةٍ أو لمسٍ أو مسٍّ أو اختلاطٍ ونحو ذلك ممَّا يؤذيها في دينها أو نفسها أو عرضها، فمن حقِّ الزوجة على زوجها أن يوفِّر لها حصانةً كافيةً ورعايةً وافيةً وحفظًا تامًّا يندرج ضمن هذا الحقِّ ما يضمره من عامل الغيرة التي تتجلَّى بعض وجوهها في الصور التالية:
- أن يغار عليها إن أبدت زينتها لغير زوجها ومحارمها، كما يغار عليها إن لم يغضَّ الرجل الأجنبيُّ بصرَه عنها أو لم تغضَّ بصرها عنه، وينهاها عن ذلك ولا يرضى صنيعها -ولو مع سلامة القلب وحسن النيَّة-، لأنَّ «النِّيَّةَ الحَسَنَةَ لاَ تُسَوِّغُ الحَرَامَ» لقوله تعالى:﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[النور: 30-31].
- أن يغار عليها إن أطلقتْ لسانها بالسوء والفحش والبذاء فيزجرها عن ذلك لقوله تعالى:﴿لاَ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾[النساء: 148]، وكذلك يغار عليها إن كلَّمتْ أجنبيًّا بخضوعٍ في القول ولينٍ في الخطاب، فيحذِّرها من هذا الصنيع ولو للحاجة وانتفاء سوء الغرض أو فساد القصد لقوله تعالى:﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾[الأحزاب: 32].
- أن يغار عليها إن دخلتْ على غير المحارم من الرجال الأجانب أو دخلوا عليها لتجتمع معهم في العمل أو في سهراتٍ عائليةٍ أو غير عائليةٍ، سواءً في بيتها أو في بيت غيرها، لأنه لا يأمن عليها سوء نظرةٍ أو كلمةٍ أو فعلٍ، فإنَّ عواقب ما تسوِّل النفسُ به وما يوسوس به الشيطان مذمومةٌ ووخيمةٌ، لذلك كان من مقتضى الغيرة ودوافعها أنْ لا يَدَعَها تختلط بالرجال الاختلاطَ الآثم لعموم قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾[التحريم: 6]، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:«إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ»فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ:«الحَمْوُ المَوْتُ»(6).
أن يغار عليها إن خرجت من بيتها متبرِّجةً بزينتها أو متعطِّرةً أو متحلِّيةً بمختلف الحُلِيِّ والمساحيق أو كاسيةً عاريةً، قاصدةً السوقَ أو العمل أو بعض شؤونها، مختالةً معجبةً بنفسها وهيئتها ومنظرها تثير به شهوةَ الرجال، فإنَّ حرارة الغيرة تدفعه لأنْ يأمرها بارتداء جلباب الستر والحياء لقوله تعالى:﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾[الأحزاب: 33]، ولقوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[الأحزاب: 59]، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:«أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَزَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا، هَتَكَتْ سِتْرَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا»(7)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:«ثَلاَثَةٌ لاَ تَسْأَلْ عَنْهُمْ: رَجُلٌ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَعَصَى إِمَامَهُ وَمَاتَ عَاصِيًا، وَأَمَةٌ أَوْ عَبْدٌ أَبَقَ فَمَاتَ، وَامْرَأَةٌ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَدْ كَفَاهَا مُؤْنَةَ الدُّنْيَا فَتَبَرَّجَتْ بَعْدَهُ، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْهُمْ»(8)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:«خَيْرُ نِسَائِكُمُ الْوَدُودُ الْوَلُودُ الْمُوَاتِيَةُ الْمُوَاسِيَةُ إِذَا اتَّقَيْنَ اللهَ، وَشَرُّ نِسَائِكُمُ الْمُتَبَرِّجَاتُ الْمُتَخَيِلاَّتُ وَهُنَّ الْمُنَافِقَاتُ، لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْهُنَّ إِلاَّ مِثْلُ الْغُرَابِ الأَعْصَمِ»(9)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:«أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ»(10)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:«صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاَتٌ مَائِلاَتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا»(11).
- أن يغار عليها إذا تعرَّضتْ للفتنة بسبب طول غيابه عنها أو لأنه أوردها أماكنَ اللهو والفجور، أو أخذها إلى السواحل والغابات العاجَّة بالمنكرات والفساد، أو اقتنى لها أشرطة الغناء وكُتُبَ الخنا والأقراصَ المرئيَّةَ الآثمة أو مجلاَّتِ الفحش والفجور وما إلى ذلك من وسائل الانحلال الخلقي والسلوكي ممَّا يركن إليه الأرذلون ويرتضيه المنحطُّون، فإنَّ غيرة الزوج تأبى موتَ النخوة وضياعَ الرجولة الحقَّة الشريفة، فإنَّ فقدان الغيرة ضياعٌ لأصل الدين، وفي هذا السياق يقول ابن القيِّم -رحمه الله-: «وهذا يدلُّك على أنَّ أصل الدين الغَيرة، ومن لا غيرةَ له لا دين له، فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح، فتدفع السوء والفواحش، وعدمُ الغيرة تميت القلب فتموت له الجوارح، فلا يبقى عندها دفعٌ ألبتَّةَ، ومَثَلُ الغيرة في القلب مَثَلُ القوَّة التي تدفع المرضَ وتقاومه، فإذا ذهبت القوَّة وجد الداء المحلَّ قابلاً ولم يجد دافعًا فتمكَّن فكان الهلاك، ومثلها مثل صياصي(12)الجاموس التي تدفع بها عن نفسه وولده، فإذا تكسَّرت طمع فيها عدوُّه»(13).
فهذه بعض وجوه غيرة الرجل على أهله وجوانبها الظاهرة الداخلة في الأصل الممدوح الذي يتبلور حاصله في أنَّ «الغيرة على المحبوب حرصُك عليه، والغيرة من المكروه أن يزاحمك عليه، فالغيرة على المحبوب لا تتمُّ إلا بالغيرة من المزاحم»(14)، ويخرج منها -بالتأكيد- قالبها المذموم المتجسِّد في كلِّ غيرةٍ مبنيَّةٍ على الشكِّ والرِّيبة لا تدلُّ عليها الدلائل ولا تشهد لها ظواهر الأحوال، لأنَّ الخواطر تنقلب إلى وساوسَ، وكثرة الوساوس تهجم على المرء فترمي به في زاويةٍ مظلمةٍ من الشكوك والريب، وذلك كإساءة الرجل الظنَّ بزوجته من غير دليلٍ ظاهرٍ أو قرينةٍ واضحةٍ، فتراه يترقَّب تصرُّفاتها ويريد أن يبرهن على أمرٍ وهميٍّ، وقد يصل به الأمر إلى وضع أجهزة التصوير وأدوات الْتقاط الصوت في بيتها ليكشف عنها من بُعْدٍ، وقد يختار ساعاتٍ غيرَ معتادةٍ للدخول على زوجته، أو يتحيَّن أوقاتًا يترصَّد فيها تصرُّفاتِها بصورةٍ غير طبيعيةٍ ونحو ذلك ممَّا لا يمتُّ بصلةٍ إلى الجانب الممدوح من الغيرة، بل هي غيرةٌ مذمومةٌ شرعًا لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:«إِنَّ مِنَ الْغَيْرَةِ: مَا يُحِبُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهَا مَا يَبْغُضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنَ الْخُيَلاَءِ: مَا يُحِبُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهَا مَا يَبْغُضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يَبْغُضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ..»(15)، ولنهيه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم «أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلاً يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ»(16).
هذا، والزوج باعتباره راعيًا على زوجته ومسئولاً عنها ومكلَّفًا بحفظها والقيام على شؤونها لقوله تعالى:﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾[النساء: 34]، وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «..وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ..»(17)، فإنَّ ما تقتضيه حرارة الغيرة أن لا يحسِّن لها الفواحشَ والقبائح والظلم بل بالعكس يكرِّهها لها ويبغِّضها ولا يزيِّنها لها ويدعوها إليها ويحثُّها عليها، وإذا كان لا يسمح لها بفسادٍ في خُلُقٍ أو دينٍ من جهةٍ فإنَّ الرجل الكريم العدل -من جهةٍ أخرى- لا تحمله شدَّة الغيرة على سرعةِ تنزيل الحكم عليها أو فرض العقوبة من غير إعذارٍ مسبقٍ أو قبول عذرها إذا ما اعتذرت، فإنَّ المنصف يقبل العذر ولو مع شدَّة غيرته، فذلك من كمال العدل والرحمة والإحسان، وكما قيل:
«وَالعُذْرُ عِنْدَ كِرَامِ النَّاسِ مَقْبُولُ وَالعَفْوُ مِنْ شِيَمِ السَّادَاتِ مَأْمُولُ».
وقد أكَّد النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم هذا المعنى بقوله:«لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ»(18).
وتبعًا لهذا السياق يقول ابن القيِّم -رحمه الله- شارحًا للغيرة الممدوحة وما يقع فيه العبد موافقًا لربِّه: «وإنما الممدوح اقترانُ الغيرة بالعذر، فيغار في محلِّ الغيرة، ويعذر في موضع العذر، ومن كان هكذا فهو الممدوح حقًّا.
ولَمَّا جمع سبحانه صفاتِ الكمال كلَّها كان أحقَّ بالمدح من كلِّ أحدٍ، ولا يبلغ أحدٌ أن يمدحه كما ينبغي له، بل هو كما مدح نفسه وأثنى على نفسه، فالغيور قد وافق ربَّه سبحانه في صفةٍ من صفاته، ومن وافق اللهَ في صفةٍ من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامه، وأدخلته على ربِّه، وأدْنَتْه منه وقرَّبْته من رحمته، وصيَّرتْه محبوبًا، فإنه سبحانه رحيمٌ يحب الرحماء، كريمٌ يحب الكرماء، عليمٌ يحبُّ العلماء، قويٌّ يحبُّ المؤمن القويَّ، وهو أحبُّ إليه من المؤمن الضعيف، حيِيٌّ يحبُّ أهل الحياء، جميلٌ يحبُّ أهل الجمال، وترٌ يحبُّ أهل الوتر»(19).
تلك هي الغيرة الواجبة على زوجٍ راسخٍ في مكارم الرجولة يقوم بها تجاه زوجته، ولا يزال أهلُ النخوة من كرام الرجال يقومون بالغيرة على نسائهم حقَّ القيام ويمتدحون بها حفظًا للدين وصيانةً للعرض.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى اللهعلى محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.