لعل من أهم حسنات الربيع العربي المبارك ،أنه أزال اللثام عن المجتمعات العربية،وعن الأنظمة الحاكمة فيها، التي كانت تتستر وتحتمي وراء الكثير من العناوين البرّاقة والخدّاعة،فقد انكشف المستور وبدت سوءات الأنظمة الشمولية جليّة بارزة للعيان، بعدما أحكمت قبضتها البغيضة على رقاب الشعوب العربية لعقود..ولو لم يكن للربيع العربي فضلٌ إلا هذا،فهو لعمري كاف وزيادة. لقد عاشت الأنظمة العربية قبل انبلاج فجر الانتفاضات العربية على رصيد زاخر من الإنجازات والبطولات،التي لم يكن لها أدنى فضل فيها أو مشاركة،ولكنها مع ذلك ،ظلت تستثمرها بامتياز لإكتساب هالة من الشرعية السياسية ،التي افتقدتها دائما.. فمنذ أكثر من نصف قرن من الاستقلال الوطني،لا زلنا نُعايش حكاما لا يدّخرون جُهدا في اجتراح الألقاب التي يضفونها على أنفسهم تباهيا وزهوا،فهذا يضفي على نفسه لقب المجاهد الكبير الذي كان له الدور الرائد في استقلال الوطن،وذاك لقب القائد الكبير الذي كانت له الطولى في دحر العدوان الصهيوني،وهذا الزعيم الكبير الذي فجّر الثورة الخالدة،وهذا المؤسس والباني الذي لولاه ما كان للوطن أن يكون ..وهلمّ جرا من الألقاب والصفات التي لم تغنيهم حين جدّ الجدّ من السقوط والتردّي في مزبلة التاريخ إلى الأبد ،حتى حق فيهم قول ابن الرّشيق التونسي عندما سئل "لما لم تزر الأندلس" ،فأجاب بقوله الشهير: وممّا يزهدني في أرض أندلسٍ ... أسماءُ معتمدٍ فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها... كالهرّ يحكي انتفاخاً صورة الأسد ألقاب وصفات ما أنزل الله بها من سلطان ،إلا ما تتركه من رمزية في أذهان الناس بعيدا عن السياسة و توظيفاتها المشبوهة،لأن الشرعية الحقيقية لا تتأتى بالاعتماد على هذه الألقاب وتسخيرها بما يخدم هذا الزعيم أو ذاك،وإنما تكتسب بمقدار ما أسداه هذا الحاكم أو ذاك من خدمة إلى شعبه، و بقدر ما جاد به من نفيس في سبيل البلاد والعباد .إن شرعية وشعبية الأنظمة تقاس بمدى التصاقها بهموم الناس،وبمدى ما توفره من كرامة و رفاهية للجميع،في إطار ما هو مقرر في الحياة السياسية من آليات ووظائف،أثبتت نجاحها وفعاليتها في العصر الحديث،مع ظهور نمط الدولة الحديثة التي عرفتها الكثير من شعوب الأرض،والتي عجزنا نحن العرب عن اعتمادها وتبنّيها،نتيجة لكثافة وسَماكة ذهنية الاستبداد التي تحكم واقعنا العربي والإسلامي. هذا واقع حال أنظمتنا الحاكمة من المحيط إلى الخليج بدون استثناء، يستوي في ذلك ما يسمى بأنظمة الممانعة و المُطَبِّع المُطاوع،بل حتى سمفونية الممانعة و المقاومة لم تعد تُجدي أو تشفع للكثير في التضليل والتستر على الفضاعات التي ترتكبها هذه الأنظمة في حق شعوبها،والتي بلغت حدّ إبادة الشعوب المنتفضة بالأسلحة الكيماوية كما فعل نظام الأسد في أكثر من مرة،وكما كان قد فعل نظام صدام حسين من قبل.بل الأغرب ما في الأمر هو أن كليهما قرر تسليم سلاحه الرّادع للعدو حفاظا على وجوده.لكن هيهات هيهات، فقد الغرب قد أدرك أن هذين النظامين قد استنفذا مهمتهما،ثم قرر التخلص منهما،حفاظا على مصالحه الإستراتيجية، وفي مقدمتها ضمان أمن إسرائيل وكذا ضمان تدفق النفط العربي وبأثمان زهيدة. نتمنى أن يدوم الربيع العربي أكثر فأكثر،مشرقا فيّاضا،ينثر عبير الحرية و الكرامة على ربوع الوطن العربي الكبير،ونتمنى أن يعود قطاره الجارف إلى السكة الصحيحة كما بدأ، مزيحا من طريقه كل أنظمة الجبر والطغيان،التي تتوسل العنف والترهيب سبيلا إلى الشرعية و البقاء..
ندرك أن هذا لن يتم بالسهولة أو اليسر الذي يتصور البعض، ولكن "ما غلا الثمن إذا ما عزّ المطلبُ".