لماذا لا يقدموا استقالتهم؟ لماذا لا يرمي لهم "المفاتيح" وينسحب؟ لو استقال لكان أفضل له ! كلمات طالما سمعناها من كثير من الناس، وأفكار طالما راودت الكثير منا، وحاولت جاهدة أن توسوس لنا، وتغرينا ببريقها اللامع الأخاذ. لست أدري بالضبط لم هي هكذا مغرية إلى هذه الدرجة، التي تجعل جل من تلتقيهم يحدثونك بها، خصوصا في الأوقات العصيبة، هل لأنها فكرة تمثل ردة الفعل الناس "الطيبين" على الظلم والفساد؟ أم أنها تمثل وجهة نظر المتشككين، الذين قد يروا من المشاركين في العمل العام أناسا ربما طامعين في المناصب، حريصين على كراسيهم ومصالحهم؟ وإذا سألتهم عن الحل، والبديل، و مستقبل البلد، لا تجد لديهم إلا سرابا، ظلمات بعضها فوق بعض، متناسين أن الانسحاب معناه ترك المكان لعودة المفسدين ليكملوا مهمتهم في تخريب البلاد و ظلم العباد، بل وقد يفسر بأنه عجز وفشل للمشروع الإصلاحي في إدارة البلاد، وأنه مجرد شعارات و متمنيات لا صلة لها بالواقع، أو لا تناسب المجتمع الذي نعيش فيه. إن فكرة الانسحاب هذه حقيقة ليست جديدة، وإنما هي مغروسة عميقا في لاوعينا الجماعي، تعود إلى مراحل جد متقدمة في تاريخنا العربي الإسلامي، فمن ذلك ما يرويه لنا التابعي الكبير عامر الشعبي، من أن رجالا -يظهر أنهم تضايقوا من فساد الأحوال، وملوا من محاولات الإصلاح- فخرجوا من الكوفة، ونزلوا قريبا يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل، فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم: ما حملكم على ما صنعتم؟ قالوا: أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد. فقال عبد الله: لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يجاهد العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا. لكن يظهر أنه مع توالي السنين، كثر مثل هؤلاء المنسحبين من الميادين، ربما لكثرة المواقف العصيبة و شدة وطأتها، مما جعل الإمام ابن الجوزي في صيد الخاطر يغلظ لهم القول، ويقرعهم بقوله "وفيهم من خرج إلى السياحة فأفات نفسه الجماعة.. وما أحسن ما قال بعض العلماء لرجل سأله فقال: أريد أن أمضي إلى جبل الآكام، فقال هذه " هوكلة" (وهي كلمة عامية معناها حب البطالة). يقول: وعلى الحقيقة الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير من جماعة، وأتباعة جنازة، وعيادة مريض. إلا أنها حالة الجبناء، فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون. وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام". نعم إن القرآن يحدثنا عن نبي من الأنبياء، بعثه الله إلى قومه، فتركهم بعدما يئس من دعوتهم، فعاقبه الله على صنيعه "فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون".