لا سفارة ليبية في بيروت حتى بعد مرور سنوات على سقوط القذافي فمصير الامام موسى الصدر، تلك القضية الأساسية التي تعيق حصول "تناغم" سياسي بين ليبيا ولبنان على الصعيد الرسمي، لا يزال مجهولا رغم تصريحات بعض السياسيين الليبيين وتسريبات بعض الوثائق الرسمية السرّية عن احتمال تصفية الامام من قبل رجالات نظام قذافي بأوامر من الأخير وبمباركة دول اقليمية ما بعد خطفه فورا... قضية الامام الصدر ليست مسألة شيعية ولا حتى "همّ" اسلامي فقط بل هي قضية وطنية لبنانية بامتياز فالامام لم يكن رجل دين "عادي" بل هو انّ فكره ومسيرته واقواله وحتى "نشاطه" الداخلي والدولي جعل منه، قبل وبعد اختطافه، شخصية وطنية تحمل مشروعا ممكنا لبناء دولة مدنية تحمي "الانسان" بالمطلق وليس بصفته تابع لحزب ديني او طائفة ما... مشروع الامام الصدر الرافض لاي تبعية اقليمية او دولية لم يكن في صالح اي قوى لبنانية او خارجية قبل من الذين "سرقوا" المواطن اللبناني من فكر الدولة المدنية الى فكر "المزرعة" الطائفية التي نعيش فيها منذ الحرب الأهلية وحتى يومنا هذا... في لبنان يهمس البعض في الخفاء بكلام لا يتجرأ كثيرون على نقله الى العلن حول الامام واختطافه... ففي مجالس "الشيعة" هنا وهناك يقال ان كشف مصير الامام الصدر لا يخدم احدا الا "عشاق" الامام الحقيقيين، وهم كثر من الشيعة وغير الشيعة، وليس اولئك الذين تاجروا بفكره وقضيته وحتى بمصيره وتناسوا لأجل صفقة مالية هنا او مصالح سياسية هناك ان الامام كان يرفض الولاء لأي طرف او قيادة الا منطق العقل والفكر الديني الاصلاحي... في مجالس اخرى ربما ليست "شيعية" بحتة يقال ان الامام تمت تصفيته فور اعتقاله في لبيبا وان التصريح عن ذلك سيخلق فوضى ما غير مرغوب بها في لبنان والمنطقة لأن الكشف عن اسماء من قام بتصفيته، هذا ان كانوا لا يزالوا أحياء اصلا، سيفتح ابواب "جهنم" على تحالفات الشيعة الحالية مع قوى اقليمية ما لم يكن الامام ليرضى عليها لو كان لا يزال حيّا ... آخرون يهمسون داخل البيت السياسي لحركة أمل نفسه، اي "الوريث السياسي" للامام الصدر، ان الامام لو كان فعلا حيّا وعاد الى لبنان فستكون الحركة نفسها مطالبة باصلاح سياسي فكري ديني بعد ان جعلتها زواريب السياسة الضيّقة تبتعد عن فكر الامام... ليس في الأمر سرّا ان قلنا ان فكر الامام الصدر اكبر من مجرد حزب واكبر من مجرد طائفة بل هو اكبر من مجرّد وطنّ!!! ... ولهذا تم اخفاء مصيره لأن مصير كل لبنان بوجوده كان سيكون مختلفا... انه قدر ابطال لبنان تغييبهم عن الحياة السياسية قسرا... قبل أيام التقيت بصديق ليبي دبلوماسي سابق في بيروت كانت تلك زيارته الأولى الى لبنان... الرجل الذي عايش من خلال عمله مراحل "التنسيق" الدبلوماسي الليبي الخارجي مع "الناتو" لدخول الدعم الخارجي المسّلح للثوار الليبيين ليقاتلوا القذافي ورجاله... الرجل نفسه ليس نادما على هذا التعاون ويقولها بكل ثقة "لقد وضعنا ايادينا بيد الناتو... كنا نعرف جيّدا اننا نمارس تحالفا يتنافى مع ديننا الاسلامي... لكن اسلامنا منعنا ايضا ان نقف مكتوفي الايدي امام بطش وقتل وتعذيب القذافي ورجاله بكل معارضيه السلميين الذين نزلوا ضده في شوارع البلاد..." الرجل اعتزل اليوم الشؤون الدولية وتفرّغ لشؤون سياسية داخلية قبلية في ليبيا، لم تعد "الخارجية" في نظره الا مرحلة ذكريات تاريخية سيرويها لاحفاده بفخر كما يقول، وهو اليوم يتحدث "بحسرة" وقلق من محاولات قطر بواسطة "ادواتها" الممولة في الداخل و"رجالها" الملتحين في السلطة التلاعب بمستقبل الميليشيات المسلحة في بعض المدن الليبية... ويضيف "قطر لا تريد بناء جيش نظامي قوي في ليبيا... الميليشيات نفسها ترفض محاولات الحكومة ادماج كل المجموعات المسلحة في جيش وطني شامل جامع لكل ابناء البلاد... كيف يمكن لميليشيا تتمتع بسلاح ومال وعتاد ونفوذ وتحت سيطرتها مقرات حكومية ان تتنازل عن هذه العظمة السلطوية لصالح جيش وطني؟!" ... حين تسأل الرجل عن خطورة السلاح "الفلتان" في ايدي هذه الجماعات المسلحة يجيبك ان اصوات الرصاص في ليبيا امر اكثر من عادي ففي اي لحظة قد تشتبك هذه المجموعة المسلحة مع اخرى مسلحة... ويتابع "يقع ضحايا بين قتلى وجرحى وتعود الامور الى طبيعتها بعد ساعات او ايام احيانا... هذا حالنا... والاخوان في ليبيا بعد ان فشلوا في اكتساح البرلمان وصياغة وضع البلاد بعد سقوط القذافي كما يحلو لهم على عكس ما حققوه في اليمن وتونس ومصر من مكاسب سياسية وسلطوية لم يبق لديهم الا ورقة السلاح في الداخل الخارج عن سيطرة الدولة لضمان قوتهم على الارض..." الرأي العام الليبي عرف "ربيعا" لكن ربيعه ليس شبيها بدول عربية اخرى من حيث تفاعل الناس مع الثورة... الناس في ليبيا لا يتحكم بهم ما يبثه الاعلام ولا حتى وسائل التواصل الاجتماعية، اغلب حسابات الناشطين على فايسبوك وتويتر من المعارضين للاخوان او حتى المؤيدين لهم وهمية ولا تحمل اسماء حقيقية الا قلّة قليلة من ناشطي حقوق الانسان او بعض الصحافيين الذين لا يتجرأون كثيرا على تسمية الامور السياسية باسمائها و"يغلفون" تصريحاتهم غالبا بالحديث عن حقوق الانسان بشكل مجرد ومطلق بعيدا.... ربيعهم ربما كانت انطلاقته فايسبوكية متأثرة بثورتي تونس ومصر لكم نجاح ثورتهم لم يكن بتغريدات التويتر حتما!!!!... ففي ليبيا لا زال "الهمس" بالاذن قادر على صناعة تأثير على عقول الناس وحتى عواطفهم في ما يخص خياراتهم السياسية... المجتمع الليبي مجتمع قبلي عشائري و"الوجوه" القيادية في العشيرة لديها سلطة على ابناء القبيلة ومع ذلك فلكي "تغلغل" فكرة ما او مشروع ما بين عشيرة او مدينة معينة فليس عليك الا استخدام مجموعة شبان فاعلين في المنطقة وسيقومون "بالهمس" بين ابناء المنطقة بكل ما تريد نشره... انه اعلام "الهمس" الذي يمارسه الليبيون... الدبلوماسي السابق لم ينبهر بحياة الليل في بيروت كما يفعل معظم السياح العرب والاجانب بل بحث عن اشهر مكتبة لبيع كتب السياسة والفكر الديني في العاصمة... كانت احدى مكتبات شارع الحمرا الشهير كفيلة بجذبه لشراء مجموعة كبيرة من الكتب... اثناء تجوله في المكتبة نظر الى احد الرفوف وجد "الكتاب الاخضر" الشهير مكدسا بنسخ كثيرة... وقف الرجل لدقائق متأملا "الأخضر" امامه وكانه استرجع ذكريات تعذبه اراد نسيانها... انتبه الى نظراته صاحب المكتبة فاقترب منه و"همس" له "الكتاب الاخضر باع بعد سقوط القذافي اكثر مما باع طيلة العشرين عاما التي سبقت سقوط القذافي... الناس لم تكن تهتم في لبنان وحتى في العالم العربي بمعرفة عقل الديكتاتور الا انهم اصبحوا فجأة بعد سقوط القذافي متعطشين لقراءة الفكر الذي جعل القذافي يحكم به شعب عظيم استطاع صنع ثورة بسرعة قياسية... طبعا العرب لا يريدون ان يتعلموا من الكتاب شيئا بل هم فقط يريدون اشباع حشريتهم بقراءة كتاب سمعوا ان فيه طرائف تشبه خطابات القذافي الطريفة ايضا..." احاديث سريعة مقتضبة دارت بين الرجل وصاحب المكتبة لم انتبه لها كثيرا الى ان سمعت صاحب المكتبة يذكر حديث سابق دار بينه وبين ابنة طلال سلمان ناشر جريدة السفير اذكر من الحديث الكلمات التالية "اتفهم ان يكتب اي صحافي او كاتب او حتى ناشط ضد القذافي في جريدة السفير ولكن ان يوّقع طلال سلمان على مقال في الجريدة ضدّ القذافي فهذا ما لا اتصوره"... صاحب المكتبة لا يعتبر القذافي بطلا ولا ينظر اليه كقائد ديمقراطي مع شعبه... هو يراه ايضا ديكتاتورا لكنه لديه مقاربة مختلفة للأمر... هو يرى في مجموعة من الصحافيين العرب واللبنانيين الذين "قبضوا" بالالاف من زعماء عرب اسقطهم الربيع، وهذا ما ثبت في مجموعة من وثائق ويكيليكس المسّربة، وكانوا مقتنعين حينها بفكر هؤلاء القادة او على الاقل مقتنعين بسياسات هؤلاء تجاه شعوبهم وبين ليلة وضحاها حين ثارت شعوبهم ضدهم اصبح هؤلاء يستحقون من هؤلاء "الصحافيين" النقد اللاذع! هي اذا ليست عتاب او لوم لتبدل مواقف بعض الصحافيين ونظرتهم لتقييم اداء رئيس او ملك او قيادي بقدر ما هي ازمة وجود صحافيين يكتبون قناعتهم ولا يغيرونها الا ان تبدلت المعطيات امامهم وليس ان تبدل ميزان القوى مع او ضد من يقف وراء القضية التي يدافعون عنها... غادر صديقي المكتبة وهو يحمل بداخله يقينا ان بيروت بعيدة عن الربيع السياسي لان ربيع فكرها لم يكتمل بعد... غادرت انا صديقي وانا على يقين ان الليبيين الذين صنعوا ثورة لن يرضوا ان يبيعوا ثورة مقابل "لحية" تعدهم بالجنة ولا مقابل "برلماني" يعدهم بارضاء الله في مواقفه... شبع الليبيون من جنون العظمة لدى قياداتهم السابقة والحالية... الاوطان لا تبنى بالثورات وانما الثورات تفتح المجال لحياة سياسية تبني وطنا بعيدا عن الديكتاتورية وقمع الحريات وسرقة احلام الشعوب!!!