كيف يمكن للمرء أن يكون حاضرا جسديا، لكن غائبا روحيا وعاطفيا؟ هذا التناقض الصارخ يعكس حالة من الانفصال النفسي عن الواقع، تجعله يعيش في أسرته كأنه غريب، وفي وطنه كأنه عابر سبيل، وما يزيد الطين بلة هو التداخل بين العالم الافتراضي والواقع اليومي، لدرجة أصبحنا نشاهد استجابة عشرات القاصرين لفكرة الهجرة غير الشرعية في يوم محدد دون تفكير في المخاطر أو استحضار لأي اعتبارات قيمية. وسيكون من غير المنصف حصر أسباب هذا النفور الجماعي في المشاكل الاجتماعية من قبيل البطالة والغلاء وغيرها، بقدر ما يجب معالجة الموضوع من زوايا مختلفة يتداخل فيها النفسي بالاجتماعي، وكذا تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على السلوك.
إن أقرب تفسير لتدفق عشرات القاصرين نحو شمال المغرب، مدفوعين بحلم الهجرة إلى أوروبا، من بينهم صغار خاطروا بحياتهم استجابة لدعوة عابرة على مواقع التواصل الاجتماعي هو نظرية تأثير الجماعة في أبشع صورها. فكما يقول عالم النفس الاجتماعي سولومون آش: "نحن نتأثر بالآخرين أكثر مما ندرك". وفي عصر الإنترنت، أصبحت "الجماعة" افتراضية، لكن تأثيرها حقيقي وخطير. هؤلاء الشباب، المحبطون والباحثون عن الأمل، وجدوا في هذه الدعوة الجماعية فرصة للانتماء وللهروب من واقعهم المرير. والدليل على ذلك أن العبور إلى الضفة الأخرى لا يعني حل مشاكل البطالة، فحتى سكان أوروبا يعانون من الفقر وقساوة المناخ وصعوبات جمة، دون أن ننسى ما يواجه هؤلاء الحالمين من إكراهات في الاندماج والتواصل والإقامة بشكل شرعي...
مؤشرات كثيرة تعكس حالة من الشعور بعدم الرضا كارتفاع معدل الجريمة والإدمان على استهلاك المؤثرات العقلية وارتفاع نسب الطلاق والهدر المدرسي، كلها تمثل اتساع الفجوة بين الواقع المعيش والطموحات، وعندما يواجه الفرد وضعا يتعارض مع طموحاته وقيمه، ينشأ توتر نفسي يدفعه إما للتغيير أو الهروب.
ومن البديهي أن المستوى السياسي يتحمل جزءا من المسؤولية عن مشاكل المجتمع بحكم دوره في تخطيط السياسات العمومية وتنزيلها على أرض الواقع، لكن جزءا كبيرا من المسؤولية يقع على عاتق الأسرة، فهي مشتل صناعة الأجيال، وما يلاحظ هو تخلي أولياء أمور الأسر عن الاضطلاع بمسؤولياتهم الجسيمة في التنشئة والرعاية أو استسلامهم لضغوط الحياة وطوفان الابتذال والتفاهة القادم تحديدا من وسائل التواصل الاجتماعي.
والتحدي الذي يواجهنا اليوم ليس مجرد معالجة أعراض مشكلة الهجرة غير الشرعية أو الشعور بالاغتراب، بل هو دعم مؤسسات التنشئة التربوية والاجتماعية، وتعزيز دور الأسرة كحصن أول ضد تيارات الاغتراب في عالم يتسارع فيه كل شيء.
وكما قال الشاعر محمود درويش: " على هذه الأرض ما يستحق الحياة" وفي مغربنا الكثير مما لا يوجد في غيره من مزايا ومقدرات تتطلب التصالح مع الواقع والعمل دون كلل لبناء مستقبل أفضل.