مباشرة بعد الخطاب الملكي الأخير بمناسبة عيد العرش، والذي دعا فيه الملك إلى تعديل مدونة الأسرة لتجاوز النواقص المسجلة في النص الحالي وما تولد عنها من إشكاليات مجتمعية تهم الأسرة المغربية، انطلق النقاش العمومي حول مدونة الأسرة بكثير من الحماس السياسي والإديولوجي. لا مندوحة للمجتمع المغرب عن الخوض مرة أخرى في واقع وإشكاليات الأسرة المغربية ونواقص مدونتها، فالواقع اليوم يثبت بأننا نعيش فعلا تحديات أسرية خطيرة أصبحت تؤثر على التوازن المجتمعي في شموليته، بل وأصبح البحث عن أجوبة بخصوصها أكثر ملحاحية. وعلى غرار التجربة السابقة لمدونة الأسرة سنة 2004 التي عرفت نقاشا مجتمعيا حادا وصل حد الانقسام، عاد النقاش من جديد حول نفس الموضوع ليتخذ مرة أخرى منحى صداميا بين فعاليات نسوية وحداثية من جهة وأخرى أصولية ومحافظة. ليس عيبا أن تنخرط الأحزاب السياسية والمنظمات النسوية والحركات الدعوية في هذا النقاش الوطني، بل من واجبها أن تساهم فيه وتعبر عن قناعاتها واقتراحاتها. لكن في مقابل ذلك من الخطأ اعتبار مدونة الأسرة لدى هذه الجهات أو عند غيرها ساحة سجال إديولوجي أو صراع سياسي. أخطأنا سنة 2004 عندما غلبنا المنطق السياسي على المنطق المجتمعي في نظرتنا إلى واقع الأسرة المغربية ومستقبلها، أخطأنا أكثر عندما نظرنا إلى موضوع الأسرة بمنظار الهزيمة السياسية والانتصار الإديولوجي. لا شك أن الأسرة موضوع مجتمعي يحظى بأهمية كبرى في بناء واقع الأمة ومستقبلها، ولا يستقيم أن يسجن في قفص الحسابات السياسية الضيقة أو الصراعات الإديولوجية المفتعلة. ومن المؤكد أننا سنخلف الموعد مع التاريخ جميعا إن نحن سلمنا باحتكار النقاش حول الأسرة المغربية من طرف جهات تقدم نفسها ناطقة باسم المرأة أو الأسرة أو الدين أو الحرية. تعيش الأسرة المغربية إشكاليات بنيوية تتجاوز المنظور السطحي الذي يحاول البعض اختزال النقاش العمومي حول مدونة الأسرة فيه. لا يجب أن نفصل التحديات القانونية المطروحة في مدونة الأسرى عن التحديات البنيوية للأسرة المغربية. تحديات اقتصادية مرتبطة بسياق وطني ودولي يتسم بضغط متزايد على تماسك الأسرة واستمرار أدوارها. تحديات اجتماعية تتعلق بانتشار البطالة والأمية والتفاوت الاجتماعي وغياب عدالة مجالية. تحديات ثقافية تتمثل في الضغط الذي تمارسه الأنماط الثقافية والقيمية العابرة للحدود والتي تمس الهوية الحضارية للأسرة المغربية.. ليست مدونة الأسرة ميدانا للمبارزة بين الحداثيين والأصوليين ولا هي علامة تجارية لهذه الجهة أو تلك، بل هو موضوع يهم المجتمع ومستقبل الأمة بكل مكوناتها. موضوع تتقاطع فيه تخصصات كثيرة ومتداخلة كالسوسيولوجيا، الفقه، القانون، الصحة، السياسة، التنمية، الحقوق، علم النفس، والديمغرافيا وغيرها.. تبدأ أولى ثمار استيعاب الخطاب المكلي من خلال تجاوز الحسابات السياسية الضيقة والاصطفافات الإديولوجية، وينتهي عندما نقرر جميعا أن ننظر إلى الأسرة ومستقبلها بمنظار المصلحة الفضلى للأمة المغربية لا مصلحة الحزب أو الطائفة أو الفكرة أو الطبقة.