بموازاة مع المعركة التي تخوضها بلادنا ضد الحرائق التي دمرت آلاف الهكتارات من الغابات، تجري معركة أخرى من قبل سلطات الأقاليم والمدن حول ترشيد استهلاك الماء ومنع تبذيره في غسل السيارات والعربات وسقي المساحات الخضراء، تنفيذا لما تضمنته مراسلة لوزارة الداخلية وتفاديا لما قد تعرفه عديد المدن والمناطق من أزمة مائية خلال الشهور المقبلة، بفعل تراجع حقينة السدود والفرشة المائية إلى جانب الجفاف الناتج عن ندرة التساقطات المطرية في السنوات الأخيرة وبالأخص هذه السنة، حيث تم الشروع في إغلاق محلات غسل السيارات التي تبالغ في استعمال الماء الشروب. ويأتي قرار إغلاق محلات غسل السيارات ومنع سقي المساحات الخضراء، في إطار التصدي لكافة مظاهر الإسراف في استعمال المياه الصالحة للشرب عبر جميع ربوع المملكة، احتراما للتدابير التي اتخذتها السلطات لمواجهة معضلة الجفاف وأزمة قلة المياه، حيث أضحت بلادنا تعاني أكثر من أي وقت مضى من وضعية مائية جد مقلقة ومخيفة، وتتمثل في التراجع الكبير لحقينة السدود والأحواض المائية، والاستنزاف الخطير الذي تعرفه الفرشة المائية. وقد شدد الولاة والعمال على ضرورة ترشيد استعمال هذه المادة الحيوية في الري مع الاعتماد على مياه الآبار في سقي الساحات الخضراء، وحث رؤساء المقاطعات والسلطات المحلية على إلزام أصحاب محلات غسل السيارات باستعمال مياه الآبار أو إغلاق محلاتهم تجنبا لسوء استغلال مياه الشرب. بيد أن قرار الإغلاق لا يشمل جميع محلات غسل السيارات والعربات كما يدعي البعض، حيث أنه وقبل إقدام الجهات المسؤولة على هذا الإجراء، وجهت تنبيهات لأصحابها انطلاقا من قيمة فواتير استهلاك الماء خلال الشهور الأخيرة، التي أظهرت أن البعض يستهلك الماء الشروب بإفراط شديد، في حين أبقت على المحلات التي تعتمد على مياه الآبار مفتوحة في وجه زبائنها ومواصلة نشاطها التجاري. وهي الحملة التي أثارت جدلا واسعا في الأوساط الشعبية وعلى منصات التواصل الاجتماعي، وتضاربت الآراء حول الإجراءات المتخذة من قبل السلطات العمومية التي نزلت على رؤوس البعض كالصاعقة. فإلى جانب أولئك الذين اعتبروها خطوة إيجابية، وأنها رغم كونها جاءت متأخرة نوعا ما، تعد مسعى ضروريا من أجل الحفاظ على الماء في مثل هذا الظرف الصعب، باعتباره ثروة وطنية أساسية، وأنه بدونها لا يمكن للحياة أن تستمر، وفي ذلك قال سبحانه وتعالى "وجعلنا من الماء كل شيء حي" (سورة الأنبياء، الآية: 30) هناك في المقابل من رأى فيها اعتداء على البسطاء من الذين ليس لهم من مورد رزق آخر عدا غسل السيارات في تلك المحلات التي يتقاسم معهم الأرباح واجب كرائها، عوض لجوء السلطات إلى علية القوم، حيث يستنزف سقي ملاعب الغولف وحدائق فيلاتهم ومسابحهم الخاصة آلاف المترات المكعبة من المياه الصالحة للشرب، ناهيكم عما تستهلكه الضيعات الفلاحية وغيرها. ويرى بعض الخبراء أن الجفاف استقر بالمغرب منذ سنة 2018، دون أن تقوم الدولة بما تقتضي الضرورة من احتياطات، وأن أصل المشكل الذي يتخبط فيه المغرب اليوم، هو أن هناك حوالي 87 في المائة من المورد المائي لا يخضع لأي قانون، ويتعلق الأمر بالمياه المستعملة في مجال الفلاحة. وهو ما يعني أن القانون رقم 95.10 كان يقنن المياه المستعملة في الفلاحة، أكثر بكثير من القانون الحالي 15.36 الذي لا يتضمن القطاعات الفلاحية. لكن المؤكد هو أنه جاء لتدارك نقائص سابقه وتحقيق حزمة من الأهداف، منها مثلا تعزيز المكتسبات، تقوية الإطار القانوني المتعلق بتثمين مياه الأمطار والمياه المستعملة، وضع إطار قانوني لتحلية مياه البحر، تقوية الإطار المؤسساتي وآليات حماية موارد المياه والمحافظة عليها، فضلا عن تحسين شروط الحماية من الظواهر القصوى المرتبطة بالتغيرات المناخية. ويرتكز كذلك على مجموعة من المبادئ الأساسية، كالملكية العامة للماء، وحق جميع المواطنات والمواطنين في الولوج إلى الماء والعيش في بيئة سليمة، وتدبير الماء طبق ممارسات الحكامة الجيدة التي تشمل المشاركة والتشاور مع مختلف الفاعلين، والتدبير المندمج واللامركزي لموارد المياه مع ترسيخ التضامن المجالي، وحماية الوسط الطبيعي وتطوير التدبير المستدام. فأين نحن من "شرطة المياه" التي تعتبر إطارا قانونيا لحماية ثروات المغرب المائية، ولاسيما أن الباب الحادي من ذات القانون 15.36 المتعلق بالماء أفرد حيزا هاما لتعزيز المراقبة ودعم شرطة المياه، بناء على المنظور الجديد لحكامة المياه، حيث أناط بهذه الشرطة مهام المراقبة بغرض توفير الحماية الكافية للثروة المائية الوطنية، والحفاظ عليها من أي استنزاف ممكن أو إلحاق الضرر بها. حيث تقوم هذه الشرطة حسب مقتضيات القانون بمعاينة المخالفات المرتكبة، كما لها حق ولوج المنشآت المائية بما فيها الآبار والأثقاب والتجهيزات الأخرى، وأخذ العينات وتوقيف الأشغال والحجز على الآليات والأدوات. إننا إذ نأسف لتواصل سياسة الحلول الترقيعية، فإننا نستاء من حالة القلق التي بدأت تستبد بنا خوفا من تفاقم أزمة الماء، في ظل غياب الرؤية الاستشرافية والحكامة الجيدة والتخطيط الجيد، علما أن المغرب انتهج سياسة السدود منذ عقود، وأن الملك محمد السادس سيرا على نهج والده الحسن الثاني طيب الله ثراه، لم ينفك يدعو إلى الحفاظ على ثرواتنا الوطنية، مما يقتضي تكثيف جهود الجميع نحو الحد من الاستهتار بالثروة المائية الوطنية والحرص الشديد على ترشيد استهلاكها، حتى نتمكن من توفير المياه العذبة للأجيال القادمة...