لنفترض جدلا أن الثمانية ساعات القادمة من حياتك ستكون هي الاخيرة التي ستعيشها، كم هو المبلغ أو المقابل المادي الذي ستطلبه لقاء أن تقضيها داخل مقر عملك بين اربعة جدران؟ للأسف هذا واقعنا اليومي، واسمحوا أن اتفلسف في مقالي هذا قليلا اليوم لا لاستعراض عضلاتي الفكرية، ولكن لاوضح لي ولكم مدى الغباء والبؤس الذي نعيشه يوميا مقابل دراهم معدودة، سؤالي لكم من منا يضمن لنفسه أن يعيش الساعة القادمة؟ ومع ذلك نبيع الساعات القادمة بأقل ما هو متوقع او بمبلغ زهيد جدا، من حيث لا ندري حتى أولئك الذين يظنون بحمق أنهم قد تركوا الوظيفة وانشغلوا بدخل مادي خاص، سيشتغلون ربما أكثر من ثماني ساعات لتحصيل ربح مادي قد يكون أكثر او أقل من أصحاب الأجرة. في الواقع، فحتى في عصر العبودية هناك في الأزمنة الغابرة، لم يكن يتوقع حتى أكبر المتفائلين بأن يبيعك أحد ساعات طوال بهذا المقابل المادي، كان هؤلاء يقوم بعمل معين وكان على السيد الطعام والشراب والسكنة والعلاج إن لزم الأمر يعني العبد لم يكن يحمل هم، وليس هناك بيع لسنوات العمر مقابل عائد مادي، كانوا يعيشون في سعادة داخل تجمعاتهم الخاصة ويعملون بمرح، نعم!!! رغم معاناتهم تحت اشعة الشمس المحرقة كانوا ينشدون تارة ويمزحون تارة اخرى، لم يكن يشغلهم المستقبل مرتاحي البال كانوا كالأطفال مع أبائهم هل في رأيك هناك طفل يفكر مجرد التفكير في سومة الكراء او النفقات؟ فهذا العبد وإن مرض لايستطيع سيده طرده او عدم الانفاق عليه لأنه في هذه الحالة سيصبح حرا، وهو واقع اجتماعي يسعى له كل ذي عقل طبعا. بينما اليوم داخل مقرارات العمل الرسمية نعيش عبودية من نوع خاص منذ دخولك لبناية العمل التي قد تكون محاطة في كثير من الاحيان بحائط مسيج لثماني ساعات متتالية لا يسمح لك بالخروج منها إلا للضرورة القصوى، وجوه مكفهرة لم تنم لساعات كافية مستيقظة بالجبر، تلاقي بعضها البعض دون سلام ولا كلام اللهم تلك الهمهمات القليلة، صمت رهيب وكأن الموظف يساق إلى سجن بدون ترفيه، وسط جدران صماء تسمع هي الأخرى انينه حتى يبلغ 60 سنة موعد الرحيل عن زنزانته اليومية والمؤقتة، موظف يجمع بين ضغط الشغل والمنزل والشارع ولا يعرف كيف الخلاص، موظف اثقلته الهموم والديون والمسؤوليات والانشغال بالمستقبل الذي سيأتي اولا يأتي. فعلا قد يقول قائل بعض الدول قد سبقتنا لحلول من قبيل تغير الديكورات فلم تعد تعتمد نظام المكاتب والكراسي الكلاسيكي، وأصبح بدله مجموعة من الكنبات والحواسب المحمولة، مقاهي لتبادل أطراف الحديث، بل وحتى أسرة لأخذ قيلولة ما بعد وقت الغذاء، ناهيك عن من وضع حتى مسابح داخل مقرات العمل ومدارس للأولاد، لكن يبقى الالتزام بالحضور والانصراف رأس الداء الذي لا يوجد له داوء، سيقول قائل هناك ابداع جديد وهو العمل عن بعد ربما حل المسألة من ناحية الالتزام، ولكنه في غالب الأحيان يكون بعائد مادي ضعيف مقارنة بالحضوري، وحتى في دولنا الأقل تحضرا يعتبر ممتهن هذا النوع من العمل متكاسل وليس في جودة الآخر وهو ما يحط من قدره الاجتماعي. حقيقة واحدة يمكن ان ندركها جميعا هو أن الله سبحانه وتعالي هو الوحيد الذي استطاع ان يكافئنا بما نستحق نظير إيماننا والتزامنا بشعائرنا الدينية ومعاملاتنا اليومية، وبرحمته بالجنة والخلود في النعيم، أما بقيت البشر ولو أفنيت حياتك كلها في سبيله لن يوفيك ولو القليل من حقك حتى لو اعطاك ملأ الأرض ذهبا ونعمك في جنة الدنيا، لأنه للأسف نعيم زائل ومؤقت. وهنا أسوق مثلا بسيط عن هذه المفارقة العجيبة لنفترض مثلا أنك تعمل بشركة معينة وأصبت بوعكة صحية لم تستطع معها أن تؤدي مهامك، سيكون أمامك ثلاث خيارات أحلاهم أمر من الأخر إما أن تغير عملك لعمل يوافق علتك وهنا ستفقد الشغف وستكون كالرجل الذي يتعلم المشي لأول مرة رغم كبر سنه، ذلك بأنك ستجد نفسك تمارس مهمة جديدة لأول مرة في حياتك والاندماج فيها سيكون بالطبع على قدر استعدادك النفسي لتقبل الوضع الجديد، وإما فمرضك لن يمكنك ان توذي أي عمل وفي حالتك تلك إما أن تترك عملك وتشرد أسرتك أو أقل الأضرار ستحال على التقاعد بسبب العجز وسيخفض راتبك طبعا، بينما في كل تلك الحالات لو تمسكت بإيمانك بالله رغم صعوبات الحياة فهي رفعت لك عند مولاك الذي، إن وجدك شاكرا وحامدا. ختاما كتابتي هاته ليست للتشجيع على الزهد في الدنيا طبعا وليست للتمرد على واقع دنيوي زائل، ولكن لخفض سقف توقعاتنا من البشر، فكيف لمن تبعه ثمانية ساعات من حياتك أن يسعدك وهو نفسه يبيع ثمانية ساعات لغيره؟