يطلق مصطلح المياه الدافئة على المياه الجنوبية للقارة الأوروبية التي تضم بحيرة الأبيض المتوسط وكل البحار المتفرعة عنها و التي تقع في مجال جيواستراتيجي كان تاريخيا و لا زال محط صراع كبير بين القوى الكبرى التي حكمت و تحكم العالم، فهذه المياه تستمد مكانتها من موقعها كعقدة للتجارة العالمية وكملتقى للطرق الرابطة بين أوروبا وآسيا و إفريقيا بل و حتى أمريكا ،حيث يتم النفاد إليها عبر مضايق رئيسية تضم مضيق جبل طارق و قناة السويس وباب المندب و مضيق البوسفور و الدردنيل ، و لقد سعت روسيا تاريخيا إلى وضع موطئ قدم بهذا الموقع الحيوي بغية تعزيز وجودها وضمان مصالحها الاستراتيجية مع التحكم في حيز جغرافي له أبعاد عسكرية واقتصادية سياسية و عقائدية ، ولعل الحرب الروسية الأوكرانية اليوم هي من مفرزات هذا الطموح الروسي في الوصول إلى هذه البحيرة المائية الكبرى و ضمان حصة لها في هذا الجزء من العالم في ظل الصراع الذي تواجهه مع الدول الغربية ، هذه الرغبة تجد مرتكزاتها في : - وجود القاعدة البحرية بميناء طرطوس السوري منذ 1971 والتي أعيد استخدامها من قبل موسكو بعد تجديد الإعلان عن اتفاقية استئجار الميناء لمدة 47 سنة في أبريل 2019 همت تعزيز الوجود العسكري و البحري في سوريا . - التدخل الروسي في سوريا عبر الاتفاقية المبرمة مع الدولة السورية في 15 غشت 2015 التي تتعلق بنشر مجموعة من سلاح الجو في قاعدة حميميم قرب اللاذقية و تعزيزها بكافة القوات الروسية الأخرى . - عقد اتفاقية مع دولة قبرص تقضي بالسماح للسفن الروسية بالرسو في موانئها . - التفاوض مع السلطة المصرية من أجل إنشاء قاعدة عسكرية في الساحل الشمالي لمصر . - تخصيص روسيا لقوة بحرية كبرى تعمل في البحر الأبيض المتوسط منذ 2013 بعدما تم تفكيك اللأسطول الخامس العامل في المتوسط التابع للاتحاد السوفياتي آنذاك سنة 1992 -التدخل في الشأن الليبي عبر مساعدة اللواء حفترعسكريا بغرض ضمان تواجدها بهذا البلد الاستراتيجي في المتوسط في محاولة لتجاوز عواقب تدخل الحلف الأطلسي بهذا البلد بعد الإطاحة بنظام القدافي الحليف السابق لها . إن القراءة الشاملة و المتأنية للموضوع تقول أن الحرب الروسية الأوكرانية هي نتيجة حتمية للطموح الروسي الذي ما فتئ يظل يصوب بوصلته نحو الجنوب، كما تدخل في إطار ترسيخ رغبة هذه الدولة في تكثيف الحضور عبر توسيع مجالها الحيوي بالدخول مباشرة في منافسة مع الوجود التركي و حلف الناتو بهذه المنطقة الاستراتيجية ، وهو ما يحتم عليها إدارة هذا الصراع عسكريا و اقتصاديا و جيوسياسيا عبر عدة قرارات و تدابير تمظهرت أساسا في : - اتباع روسيا لسياسة قضم مجموعة من الأراضي التابعة للجمهوريات التابعة للاتحاد السوفياتي المطلة على البحر الأسود سابقا و تعيين حكومات تابعة لها كإقليمي أبخازيا و أوسيتيا الشمالية اللذين يمتدان على مئات الأميال من ساحل البحر الأسود بعدما استولت عليهما القوات الروسية عقب حرب الخمسة أيام مع جمهورية جورجيا سنة 2008 . -اقتطاع شبه جزيرة القرم سنة 2014 من أوكرانيا و الذي مكنها من بناء قاعدة بحرية استراتيجية في سيفاستوبول عاصمة الجزيرة وإنشاء قواعد للطيران و محطات الرادار و بالتالي مراقبة سفن الناتو العاملة بالدول المنظمة إليه من مثل رومانيا و بلغريا و تركيا . - خصصت موسكو ابتداء من 2017 منظومة من السفن الحربية المتطورة تقنيا و المنتجة في كبرى مصانعها للعمل في البحر الأسود كسلاح رادع و قوي يجعل تدخلها يمتد إلى الأبيض المتوسط . - محاولة ربط وتجديد العلاقات العسكرية مع الجانب المصري عبرعقد اتفاقية عسكرية سنة 2017 تسمح بموجبه للطائرات الروسية الدخول إلى المجال الجوي المصري و استخدام القواعد العسكرية بمصر خصوصا و أن هذا البلد كان حليفا استراتيجيا للاتحاد السوفياتي في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر . تبقى الإشارة في الأخير إلى أن وجود روسيا في هذه المنطقة يمليه صراعها غير العلني مع تركيا الذي هو امتداد لصراع تاريخي امتد منذ القرن الثامن عشر بين الامبراطورية القيصرية و العثمانية والذي انتهى بانهيار هاتين الامبراطوريتين عقب الحرب العالمية الأولى التي أسفرت عن توقيع اتفاقية لوزان سنة 1923 واتفاقية مونترو التي تم بمقتضاها منح حق المرور للسفن في المضايق الواقعة في المجال الترابي لتركيا (البوسفور و الدردنيل و بحر مرمرة) مع فرض شروط معينة على القطع العسكرية . كما أن من تجليات هذا الصراع اليوم اندلاع حرب المواقع بينهما فوق الأراضي السورية بعد قيام الثورة بهذا البلد في مارس 2011 ، و هو صراع يجد أرضيته في الجوانب السياسية و العسكرية و الاقتصادية بصفة أساسية خصوصا مع الرغبة التركية في مد أنبوب الغاز من قطر إلى أوربا عبر الأراضي السورية في محاولة لتعويض الغاز الروسي ، حدة هذا الصراع ستزداد بمعارضة موسكو استراتيجية تركيا القاضية بإنشاء خط "تاناب" لنقل الغازالأذربيجاني مباشرة إلى أوروبا من دون المرور عبر روسيا . إن أزمة الطاقة العالمية و أزمة الغذاء جعلت الخط البحري الرابط بين البحر الأسود و الأبيض المتوسط ممرا استراتيجيا و حيويا ازدادت أهميته بازدياد الضغط على الطاقة وارتفاع حدة العقوبات الغربية على الغاز الروسي ، ليصبح المجال المتوسطي كقناة أساسية لعبور مصادر الطاقة إلى باقي العالم ولتزداد أهميته بعدما بات ممرا رئيسيا و وحيدا لعبور الحبوب الروسية الأوكرانية في اتجاه كل الدول ، فتزويد العالم بالطاقة وتغذيته تبتدئ من إطلالة روسيا على المياه الدافئة .