تعتبر اللغة في نظر العامة والدارسين على السواء إشارات لها دلالات، فهي علامات ورموز تنسجم مع الأشياء، مما يخلق مجالا يتضمن طابعا اجتماعيا له علاقة بنيوية وظيفية مع الفكر السائد. إن ارتباط اللغة بدلالة الأشياء ومسمياتها يجعلها تعبيرا ذهنيا يتم ترجمته إلى كلمات تمتلك معنى وتخضع لرقابة الواقع، كما أنها أداة لإنتاج الأفكار والتعبير عنها وإيصاله. إن النظام اللغوي الذي فرضه التداول والاصطلاح وفق قواعد وضوابط منظمة، يجعله مرتبطا بالإدراك الحسي الذي يوصل الكائن البشري إلى تبني توجها يميزه عن باقي الكائنات، لكن السياق الفكري مرهون بتوجيه وهيمنة سلطة المرجعيات الاجتماعية والثقافية والبيئية. إن الألفاظ اللسانية التي تولدها مخارج الأصوات، تعكس المستوى اللغوي، كما توضح الاختلاف، انطلاقا من التنوع الفكري بسبب التكوين والبيئة، الشيء الذي يجعل من اللغة أداة للتعبير والتواصل، إذ أنها تعبير واضح عن مسميات الأشياء ومدلولاتها، كما هي انعكاس جلي للتنوع الفكري لدى الأفراد، فالنطق يجعل اللغة محصورة في المجال الصوتي، أما المجال الرمزي، من إشارات ورموز، فإنها تبقى بعيدة كل البعد عن الدلالة التركيبية الأكاديمية، البنيوية، للغة بكل مكوناتها. فالمجال الرمزي ينطلق من الإيحاء والرمز، إذ يعمل ضمن منظومة معاني الأشياء ومسمياتها، فاختلافه الجوهري عن المنطوق، يجعله رهين التعبير عن المادة، لهذا فنحن لا نتعامل مع الموجودات كما هي، بقدر ما نتعامل مع نظام لغوي له قواعده التي تأسس عليها، وهي التي تجعل الأمور في نطاقها التلقائي، فينسجم الدال مع المدلول. بدون شك فإن النظام اللغوي هو الكفيل بترتيب العلاقات وتصنيف المسميات حتى يتمكن من التحكم في مكونات العالم الخارجي من خلال جدلية العلاقة بين الدال والمدلول، فيفرض نسقا لا يمكن تجاوزه أو تبديله، لأن القواعد والأنماط اللغوية لا سلطة لأحد عليها مادام الفكر نتاج اللغة، واللغة ليست سوى أداة للربط بين الأشياء ومعانيها الدلالية، لهذا فلا يمكن القول أننا نتعامل مع الواقع كما وجد، بل كما يدركه الفكر بإيعاز من اللغة، الأمر الذي يجعلنا أمام جدلية اللغة والمعرفة. المعرفة أقسام متعددة، ترتبط بالوعي الفطري أو المكتسب، وتحتكم لإعمال العقل، تشترك جميع أصنافها في آلية الإدراك، كمهارة تتوفر للجميع، وتتجسد و تنجلي من خلال الخطاب اللغوي القادر على ترجمة المعارف إلى لغة منسجمة، فالمعرفة الصحيحة، سمة يترجمها البناء العقلي المتزن، ويتم تنزيلها أرضية الممارسة، كمحك للتقويم والتحقق، فبقاؤها حبيسة الذات ينزع عنها طابعها القيمي والجمالي، وتظل المعرفة نسبية، لارتكازها على الذات البشرية، وارتباطها الدائم بالتجربة الإنسانية، ذات الخصوصية النسبية، فهي عملية تفاعل تحتكم للمنطق، وتعمل على ربط ذكي للوقائع، وتحليل استنباطي للأحداث، وقد يطغى عليها، غالبا، طابع اكتساب وتكرار الوارد، كما ترتبط جدليا بسرعة البديهة، وبالقدرة المهاراتية على توظيف الكلام في إطاره العام، كصياغة دلالية أحيانا، وفي أحيان كثيرة، يتم تحريفها، بجعلها في خدمة أبجديات معينة، مما يفقدها طابعها الموضوعي، الذي عادة ما يغيب بسبب سيادة الدوغماتية، التي تقوم بتشويه، ثم تحويل المعرفة من هدف إلى وسيلة. رغم غياب تعريف قار وثابت، فإن أغلب المعاجم تجتمع في حصر وتحديد المصطلح، في مجموع القدرات والإمكانات التي يجتمع فيها النظري والعملي، وترتبط بالإدراك، الذي يعد بدوره آلية تفاعل بين الذات والموضوع، فهما عنصران متلازمان، بل يعملان في انسجام، لذا فهي تخضع للطابع الجمعي المتفق عليه، فمتى اتفقت جماعة الأفراد على معرفة معينة، أصبحت بقوة الاجتماع صحيحة، بل حقائق ثابتة أحيانا، وهنا موطن الخلل، حيث لابد من التمييز بين المعرفة الاستنباطية التحليلية التي ترتكز على إعمال العقل، وتعتمد جملة مهارات تختلف درجة صحتها من فرد لآخر، ومن بيئة لأخرى، عن الحقائق الثابتة، باعتبارها مسلمات، تلك التي لا خلاف بشأنها رغم تباين اللغة والبيئة، بل هي ثوابت مبنية على الإدراك الحسي، كالليل والنهار، الشمس والقمر . يميز العديد من الدارسين بين ثلاث أصناف من المعرفة، فانقسموا إلى اتجاهات ومدارس، انطلاقا من مصادر المعرفة الثلاث: التيار الحسي: الذي يركز على دور الحواس الأساسي في المعرفة، ويعتبرها الأداة الوحيدة القادرة على بناء معرفة منسجمة مع الواقع، كما يلخص المعرفة في الملاحظة التي تحقق التوافق والانسجام المطلق بين الحواس والموجودات، وينفي الزعم المعرفي الذي تنفيه الحواس. التيار الفلسفي: وهو تيار يركز على التأمل في الكون، ويعطي الأسبقية المطلقة لعمل العقل في بناء المعارف، وهو توجه ينقسم بدوره إلى مدارس عديدة، لا يتسع المقام لحصرها. التيار العلمي: يعتبرها عملية تمر من مراحل مضبوطة ومحكمة، تبدأ بملاحظة الظاهرة، موضوع الدراسة، ثم صياغة الفرضيات، واعتماد التجربة، كوسيلة للتحقق، تجميع الاستنتاجات ثم التحليل فالخلاصة، لتصبح قوانين ونظريات، كالجاذبية والنسبية...
في ظل التصنيفات المتعددة للمعرفة، يلزمنا استخلاص وضبط الإطار المرجعي الذي تندرج فيه المعرفة ذات الطابع العام والتداولي، فانطلاقا من تحليل الوقائع، واستنباط الأحكام، وإنجاز دراسة، ولو تأملية، للمناخ المعرفي العام، والذي يظهر واضحا من خلال الأنماط اللغوية، لابد من الإشارة إلى أن العملية تمثل علاقة جدلية للعناصر المكونة للمجتمع بأنماط التفكير، ومدى الاحتكام للأعراف والمنهجيات الكفيلة بالتأسيس لعادات قادرة على صنع و بناء معرفة يتفاعل في بلورتها كل من الذات و الموضوع، وتشترط الانسجام بين التوجه الإدراكي والشيء المدرك. يعد المجتمع نظاما تربويا قادرا على إنتاج المعرفة وفق آليات مضبوطة وقواعد قارة، إذ يقوم بربطها باللغة في اتجاه بناء النمط الفكري، لكنه غير قادر، في جميع الحالات، على الحفاظ على التوازن المعرفي المطلوب، بسبب العلاقات السسيومعرفية المتشابكة والمتشعبة بحكم امتداداتها، كإشارة واضحة لانحراف السلوك الفردي الاجتماعي، الذي عادة ما يفرض طغيان الأنا، وحضور الذات على حساب الاحتكام للموضوع، فالمعرفة دعامة أساسية قادرة على خلق الاتفاق بين الأفراد وانضباطهم للقيم الأخلاقية، وركيزة حاسمة في بناء النظام الاجتماعي.