لا زال الفيروس التاجي "كوفيد 19" يحصد الآلاف من الإصابات المؤكدة والوفيات في صمت، محدثا عبر العالم حالة من الهلع والتوجس والترقب والانتظار، في الوقت الذي استعصى فيه التوصل إلى علاج أو لقاح ناجع من شأنه التصدي بشكل لا رجعة فيه للوباء العنيد، ويضمن العودة التدريجية و "الميمونة" للحياة المألوفة التي سلبت منا قسرا ذات يوم، "كوفيد" مرعب، بالقدر ما حل بين ظهرانينا حاملا للقسوة والهلع، وحكم علينا بالبقاء رهن اعتقال تدابير حالة الطوارئ الصحية وإجراءات الحجر الصحي، بالقدر ما كشف عن قوتنا الجبانة وغطرستنا المزيفة، وفرض علينا إعادة النظر في الكثير من المفاهيم والتمثلات التي لم نكن قطعا، نعير لها الاهتمام أو الانتباه، وعلى رأسها الحرية والحياة والصبر والقدرة على التحمل، والمرونة في التخلي عن العادات والممارسات القديمة، لكن "الكوفيد" ذاته، أبان لنا بما لا يدع مجالا للشك، أن "الكوفيد" فيه و فيه . هناك "الكوفيد التاجي" الذي فرض علينا أن ندرك ماهيتنا وحقيقتنا ونختبر مدى قدرتنا على التكيف مع الكوارث والأزمات والنكبات ونستخلص منها الدروس والعبر، لتقويم ممارساتنا وتغيير ما يعترينا من عادات سيئة وتقاليد بالية، وألزمنا أن نصغي لصوت الضمير الإنساني وما يجمعنا من قيم بشرية مشتركة، وهناك "كوفيد الإشاعة والأخبار الزائفة" الذي تناسل كالفطريات منذ فرض حالة الطوارئ الصحية، واستهدف بالأساس قطاع التربية والتعليم عبر سلسلة من الأخبار الكاذبة التي انتشرت وتنتشر بمنصات التواصل الاجتماعي كما تنتشر النيران في الهشيم، محدثة حالة من الخوف والتوجس والترقب بين التلاميذ والأسر على حد سواء، حول مستقبل العام الدراسي وسبل استكمال ما تبقى منه.
وهناك "كوفيد العبث" الذي عكسته وتعكسه جملة من الممارسات الفاقدة للبوصلة، نلخصها في حالات التهور والتراخي، في ظل ما نعاينه من خرق سافر لحالة الطوارئ الصحية ولإجراء حضر التجول، ويكفي الإشارة إلى ما تعرفه الأسواق الشعبية من تجمعات غير مفهومة، ومن انتشار "الباعة المتجولون" بالشوارع الكبرى، بشكل يعطي الانطباع أننا نعيش في زمن ما "قبل كورونا"، وما تتم ملاحظته من إقبال على الخروج للشوارع بدون سبب بكمامات "نص نص" تارة توضع أسفل الفم وتارة ثانية توضع على مستوى العنق، وما يتم تداوله من صور ومقاطع فيديو من إقبال على السباحة في الشواطئ ومن تنظيم لبعض الدوريات الرمضانية ومن خروج جماعي في بعض المدن للمطالبة ب"فلوس الرميد" (دعم صندوق كورونا)، ومن استقبالات شعبية لعدد من مصابي "كورونا" الذين تماثلوا للشفاء، بالتصفيقات والزغاريد والتحايا
والعناق، دون اكتراث لحالة الطوارئ الصحية، ودون أي انضباط للتدابير الوقائية خاصة فيما يتعلق بالتباعد الاجتماعي واحترام مسافات الأمان ...
هناك "كوفيد الجدل السياسي"، الذي أبى إلا أن يحضر في ظرفية خاصة واستثنائية تقتضي التعبئة الجماعية وتوحيد الصف لمواجهة العدو المشترك (كورونا)، بعد تسريب مشروع قانون شبكات التواصل الاجتماعي، الذي أثار زوبعة من الجدل والسخط والإدانة المتعددة المستويات، ليس فقط، لأنه فرض على الأفواه استعمال "الكمامة الإجبارية" بشكل مستدام، ولكن، لأنه عكس نوعا من المكر السياسي في استثمار الظرفية الحرجة، لمحاولة تمرير مشروع قانون "لامحل له من الإعراب" و "خارج النص"، مما استعجل تعليقه إلى "أجل غير مسمى"، ونرى أن محاولة تمرير مشروع قانون من هذا القبيل في هذا الزمن "الكوروني"، هو محاولة "فاقدة للبوصلة"، تفرض على الساسة، التعامل "المسؤول" و"الجدي" مع مشاريع القوانين التي ترهن مستقبل المغاربة، بنوع من "الالتزام" و"الانضباط" السياسي، بعيدا عن النعرات الحزبية أو التجاذبات السياسية أو الحسابات الانتخابوية الضيقة، من منطلق أن بعض القوانين لها وضعية خاصة، لأنها خارج الزمن السياسي وخارج الزمن الحكومي، ولا يمكن قطعا، إخضاعها للأهواء والصراعات الخفية أو المعلنة، حرصا على تنزيل إنتاج تشريعي رصين وناجع، يحقق نوعا من التراضي والإجماع السياسي والاجتماعي، ويحقق للقواعد القانونية قوتها ومتانتها وديمومتها.
وهناك "كوفيد العبث السياسي" الذي انتشر منذ سنوات في مشهدنا السياسي، وجعل من السياسة مفهوما مقرونا باللغط وتسلق الدرجات واللهث وراء المكاسب والمغانم، ومن الانتخابات، مجرد أفلام نمطية يعاد إنتاجها كل خمس سنوات بأبطال قدامى وسيناريوهات مألوفة، تبدأ بالحملات الانتخابوية المسعورة، وتنتهي بالإعلان عن النتائج وتقسيم الكراسي والمكاسب، بعيدا كل البعد عن مفردات المسؤولية والمحاسبة والعقاب، بشكل كرس ويكرس في أذهان الناس، أن لا شيء يتغير في مشهد سياسي راكد، تحتاج قاراته ليس فقط إلى "الزحزحة"، بل إلى ثورة شاملة، تعطي للسياسة معنى وللانتخابات مغزى، و"الكوفيد السياسي"، هو جزء من "الكوفيد الحزبي"، الذي وضعنا كمواطنين، أمام "أحزاب"بعضها راكد وبعضها نائم والبعض الثالث يكاد لا يسمع له صوت، إلا في زمن "الحملات الانتخابوية المسعورة"، كوفيد "19" عرى على حقيقة الأحزاب السياسية التي خفت بريقها في زمن الجائحة، أمام ما قدمته الدولة ومؤسساتها، وما صدر عن المجتمع المدني من مبادرات مواطنة تضامنية.
هناك "كوفيد الصحافة"، الذي عرى عن سوءة "الصحافة غير المهنية" التي كانت تقتات - قبل كورونا - على "البوز" والأخبار المثيرة، وتجري وراء أخبار "النجوم التافهة"، والتي وجدت نفسها، في ظل حالة الطوارئ الصحية وانخفاض منسوب التفاهة والجريمة، مضطرة لتعقب وتتبع الحملات التي يقوم بها رجال وأعوان السلطة بالشارع العام، بكل ما يعتري ذلك من ممارسات غير قانونية ماسة بالحياة الخاصة، أو اللجوء إلى تصوير فيديوهات توثق للشوارع الفارغة والمدن البئيسة، أو التحول القسري إلى تقديم "النشرات الجوية" المرتبطة
بتتبع أرقام الإصابات المؤكدة وإحصاء الوفيات، وهو "كوفيد" لا بد من القطع معه، لأنه يسيء لمهنة الصحافة المهنية والأخلاقية، ويجردها من قيمتها كسلطة رابعة تواكب التحولات المجتمعية وترتقي بالأذواق وتحمي المواطنين من كل أورام التفاهة والسخافة ..
هي إذن أزمة "الكوفيد" التي تتاعيش بين ظهرانينا وتحيى في ممارساتنا وتصرفاتنا، وربما هي أخطر من "كوفيد 19" الذي قد يتنازل عن قوته وجبروته، وقد يرحل عنا بدون سابق إعلان دون التوصل إلى العلاج الناجع، لكننا نعترف أنه "أربكنا" و"أحرجنا" و"أزعجنا" ومنحنا فرصة سانحة لننتبه إلى أخطائنا وزلاتنا، ونتلمس ما يعشش في ذواتنا من جبن وقوة زائفة وظلم وعناد وصدام، ومن سعي مستدام نحو إرضاء أنانيتنا المفرطة، ولو على حساب إبعاد أو إسقاط أو القضاء على بعضنا البعض بدون أدنى رحمة أو شفقة، وهي دروس وعبر وهدايا مجانية منحها إيانا "الفيروس التاجي"، الذي وضعنا في صلب اختبار في المواطنة، فشلنا في اجتيازه بسياستنا المرتبكة وأحزابنا الراكدة وتعليمنا الذي يحتاج إلى إقلاع حقيقي، وإعلامنا الذي لم يتخلص بعد من ورم التفاهة والسخافة، وممارساتنا المجتمعية الغارقة في التهور والعبث والأنانية والتراخي وانعدام المسؤولية، وعليه، فإذا كان الهاجس اليوم في المغرب كغيره من بلدان العالم، هو الخروج التدريجي من الأزمة "الكوفيدية"، فلا زمن لنا بعد "كوفيد 19"، سوى استئصال "الكوفيد" الذي يسيطر على ممارساتنا وتصرفاتنا، وهو "كوفيد" متعدد الزوايا، لا يحتاج قطعا إلى تحليلات سريرية أو مخبرية، ولكن يحتاج إلى "لقاح المواطنة" الذي يهزم ما يعشش في ذواتنا من فيروسات العبث والريع والتهور والوصولية والانتهازية والفوضوية، وهي فيروسات قاتلة تشل حركة الوطن وتحرمه من فرص النهوض والارتقاء والإقلاع ... معركة التصدي لها، تبدأ بالتعليم الناجع والفعال الذي يصنع الإنسان/ المواطن الذي تستند إليه الدولة في الظرفيات الخاصة والاستثنائية، في ظل إرادة سياسية تراهن على "البشر" لا على "الحجر" ...