أولا يجب أن نزيل اللبس على فكرة اختلطت في ذهن البعض وهي سلوك القطيع ، حين اعتقدوا أن سلوك القطيع هو نفسه مناعة القطيع ، وهما فكرتين مختلفتين ، فإذا كانت نظرية سلوك القطيع معروفة منذ مدة طويلة وكان أول من قدمها هو عالم الإحياء البريطاني ويليام دونالد هاملتون وهي تعني بكل بساطة انجرار الفرد الواحد مع مجموعة من الأشخاص والانضمام اليهم في عملهم أو تصوراتهم دون أن يفكر بشكل عقلاني أو منطقي في سبب تصرفه هذا . وكانت لهذه النظريات تطبيقات معروفة في علم النفس الاجتماعي و بعض الأنواع من السلوكيات في بعض الميادين الاقتصادية ( حين مثلا يبدأ فرد أو بعض الأفراد في بيع أسهمهم بمجرد ملاحظتهم لبدأ الكثير من الأشخاص بيع أسهمهم ) أو في الميدان السياسي ( حين يصوت شخص معين على مرشح معين لمجرد أن كل أصدقائه أو كل جيرانه في الحي صوتوا لذلك المرشح دون أن يعرف أي شيء عن برنامجه الانتخابي أو وعوده الانتخابية ) . ونظرية سلوك القطيع لها صور متعددة للكيفية التي تفرض نفسها على الشخص الذي يتبع القطيع وتجعله يغوص في بحورها بإرادته أو بدون إرادته، والمقال لا يتسع للتفصيل فيها . أما نظرية مناعة القطيع فهي ترك حبل المرض على غاربه حتى يصيب أكبر عدد من الناس دون تشديد في إجراءات الحجر الصحي والتباعد الإجتماعي ، وبعد إصابة النسبة الكبيرة من السكان بالمرض ، وبعد أن يموت منهم من لا يقدر على المقاومة ، سيبدأ الباقين على قيد الحياة أو ممن مرضوا وتعافوا بالأدوية أو بالإعتماد على مناعتهم الذاتية في تكوين مناعة بشرية وإنسانية ضد هذا المرض ، ويصبح الفيروس فيروس عادي بعد أن تعرف عليه الجسم البشري وأصبحت له العدة المناعية لمقاومته وجعله مرض عادي غير قاتل بشكل كبير كغيره من أمراض الأنوفولونزا مثلا ، وهذه النظرية التي ظلت مختبئة خلف رفوف النظريات ، ووجدت صدى صغير من العلماء الذين درسوها وكانوا يوصون بها في مقترحاتهم لمواجهة بعض الأوبئة أو الأمراض المعدية ، لكنها مع فيروس كوفيد 19 وأمام عدم وجود علاج له أو لقاح ذاع صيتها في الأفاق وتعرف عليها المواطن العالمي الذي وحد همه وانتظاراته فيروس كوفيد 19 ، وتناقلتها القنوات العالمية حين طرحها رئيس الوزراء جونسون داعيا الجميع إلى الاستعداد لمفارقة أحبائهم في خطاب وجهه إلى الشعب الإنجليزي ، وهو التوجه الذي ربما كانت ستسعى لتطبيقه الدولة التي يرأس حكومتها ، لكن الانتقادات التي وجهت لهذه النظريات والتخوف من سرعة انتشار مرض كوفيد 19 و إزهاقها أرواح الكثرين من صغار السن والفاعلين في مجتمعاتهم ، جعل الحكومة البريطانية تدير الدهر لهذه النظرية وتتبنى الحجر الصحي و اضطرت مرغمة لتعطيل عجلة الاقتصاد والتشديد على التباعد الاجتماعي بين المواطنين . وهو التوجه الذي تبنته كل دول العالم، وهو توجه معقول وسليم، لأن الانسياق وراء نظرية مناعة القطيع أمام عدم توفر أدوية فعالة يمكن أن لا تنقذ من انساق مع هذه النظرية وأصيب بالمرض ، وعدم توفر لقاحات تهم هذا الفيروس يلقح بها أكبر عدد من المواطنين قد يكون قنبلة لا يمكن أن نعرف مدى قوة انفجارها ومدى الحدود التي ستصلها ومن ستصيبه وترسله إلى القبور ممن سيتعافى منها ، بالإضافة إلى أن من يقول بأن الفيروس لن يقضي سوى على كبار السن ومن لديهم أمراض مزمنة ، قاصر التصور ولا يقدر خطورة ما يطرحه ، لأن أغلب من يديرون كبريات الشركات والمصانع في العالم ومن يحكمون ويسيرون الدول من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكل العلماء في مختلف المجالات والأطباء والفاعلين في جميع القطاعات على مستوى العالم ممن لهم الخبرة والتجربة التي يسير بها العالم هم من كبار السن وممن يتجاوز عمرهم الستين وأغلبهم مرضى بأمراض مزمنة ، وتبني نظرية مناعة القطيع بدون وجود ضمانات وعلاج ولقاحات يمكن أن تكون نتائجه كارثية على جميع المستويات . كما أن الوقت اللازم لتربية مناعة الإنسان لمرض كوفيد 19 لا يمكن التكهن به فقد يستغرق شهورا أو سنوات ، و تبني هذه النظرية يعني إصابة نسبة كبيرة تفوق الخمسين بالمئة من السكان في كل دولة ، وموت الملايين . وهو ما يجعل مجازفة كل من يتبني هذه النظرية وتطبيقها في دولته يجازف مجازفة خطيرة لا يمكن أن يتنبأ ولو بشكل كبير لا تقريبي بضحاياها من البشر و الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، كما أن الوفيات التي تسجل يوميا نجد من بينها شبابا من صغار السن وهو ما يفضي إلى أن الفيروس لا يقضي فقط على كبار السن كما أذيع بل كذلك صغار السن . ولكن هل يمكن أن يستمر تعطيل عجلة الاقتصاد في كل الدول إلى ما لا نهاية ، خصوصا وأن أمر الوصول إلى دواء أو لقاح لمرض كوفيد 19 مازال يظهر أنه بعيد المنال رغم كل التطمينات والوعود التي يقدمها العلماء والأطباء كل يوم ، وهل يمكن لقادة الدول ومعهم كل مواطنيهم أن يستمروا في ملازمة منازلهم ينتظرون فرج يظهر أن بوادره لا ترى في الأفق القريب . أعتقد أن إنسان القرن العشرين والواحد والعشرين الذي ألف العيش في حرية الحركة والتنقل والعمل والسفر وغيرها من الحريات تتسع يوما بعد آخر ، حريات فشلت في الحد منها أو تقييدها حتى أعتى الديكتاتوريات ، وبدأت تخفف من القيود التي كانت تكبل بها حرية مواطنيها بعد التدفق الهائل للمعلومات والتواصل الآني بين كل سكان المعمور عن طرق الانترنت ، ونجح فقط هذا الفيروس اللعين في الحد منها وتقييدها لمدة محدودة في الزمن ، وهذه الحرية التي ألفها الإنسان المعاصر والتي قيدتها إجراءت الحجر الصحي لمحاصرة تفشي فيروس كوفيد ، بدأت تخرج من معاقلها بعدما ظهرت الظاهر مجموعة من الدول التي بدأت تطبق فكرة مناعة القطيع مع إضافة بعض التدابير الاحترازية لجعلها أكثر أمانا ، من مثل دولة السويد التي تفتح فيها المطاعم والمقاهي بشكل عادي والناس يتجولون بدون كمامات والمدارس ما زالت مفتوحة حركة التنقل عادية ، والتي تستلزم العمل ببعض التعليمات التي تدعو دولة السويد مواطنيها لاحترامها من مثل التباعد الاجتماعي باختيارية دون أن تفرضه الدولة ، والالتزام بقواعد النظافة ، مع الالتزام بعزلة كل فرد تظهر عليه أعراض المرض . ولكن ارتفاع عدد الوفيات ليتجاوز الألفي وفاة خلال الأيام الماضية ، حركت أصوات داخلية داعية إلى فرض الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي وإقفال المدراس والمقاهي والمطاعم وتقييد حرية التنقل والحد منها إلا للضرورة القصوى . وبدأت تتسرب أخبار عن سعي مجموعة من الدول الأوروبية لبدأ عملية رفع للحجر الصحي بشكل تدريجي ، من مثل اسبانيا التي سمحت للأطفال أقل من 14 سنة الذي كان ممنوع عليهم الخروج سابقا من الخروج لمدة ساعة كل يوم ، وكذلك هناك أخبار عن استعداد بعض الولاياتالأمريكية لرفع الحجر بشكل تدريجي حتى ينتعش الاقتصاد من حالة الجمود التي يعرفها . وكل الأخبار التي بتنا نسمعها كل يوم عن استعداد مجموعة من الدول لرفع الحجر الصحي بشكل تدريجي يعطينا الإنطباع أن مستقبل نظرية مناعة القطيع بدأت بعض الأصوات ولو من خلف الستار تشجع عليها ، لأن واقع الحال يظهر أن مجموعة من الدول الغربية وبحكم كلفة الحجر الصحي وتعطيل الحركة الاقتصادية ومنع كل تحرك إلا للضرورة الملحة تسبب لها في خسارات اقتصادية بأرقام فلكية لم تعرف دول العالم خسارات مثلها طيلة تاريخها المعاصر ، وكل هذه الكوارث التي نزلت فجأة على رؤوس قادة العالم جعلتهم وهم مضطرون لا أبطال إلى تلميحهم خلال الأيام الماضية بشكل محتشم لجس نبض الشعوب ، إلى أنهم سيخففون من قيود الحجر الصحي وسترجع الحياة وقطار الاقتصاد بكل عرباته إلى طبيعته ودينامية حركته المعهودة بشكل تدريجي خلال الأسابيع المقبلة حتى لا تصاب اقتصادات الدول بالسكتة القلبية وتنهار أسسها ويصبح من الصعب جدا إسعاف مثل موت الاقتصاد الذي يكون بسبب هذه السكتات وإرجاع الحياة الاقتصادية إلى طبيعتها . الأسابيع المقبلة ستأتينا بالأخبار التي ستنبؤنا إما باستمرار دول العالم في محاربة فيروس كورونا بالحجر الصحي والابتعاد الاجتماعي مع التخفيف نسبيا وتدريجيا منه حتى يقل عدد المصابين به وينتهي كذكرى سيئة في كتب التاريخ ونحن من أنصار هذا التوجه وأنصار الحياة للجميع وهو التوجه الذي اختارته بلادنا بقيادة ملك البلاد بشكل مبكر خفف من حصيلة المرض التي كانت ثقيلة ببلدان أخرى تأخرت في اتخاذ تدابير احترازية بشكل مستعجل لوقف زحف المرض ، أم ستفاجؤنا بعدم قدرة بعض الدول على مزيد من التحمل والصبر وستشهد على ارتماء قادتهم في حضن نظرية مناعة القطيع بشكل جزئي أو كامل لكي ينقدوا اقتصاداتهم من الانهيار ويكون المقابل انتقال أعداد كبيرة من مواطنيهم من دار الدنيا إلى دار الآخرة . *محام بهيئة الجديدة [email protected]