يبدو أن الدول بدأت تتعايش بشكل حذر مع العودة التدريجية إلى الحياة الطبيعية بعد انتهاء فترة الطوارئ التي أوقفت عجلة الاقتصاد في العالم، والتي فرضتها التدابير المتخذة لاحتواء ومحاصرة فيروس "كورونا" المستجد، وأجبرت بالتالي المواطنين على الدخول في عزلة صحية. وفي هذا الصدد، قالت ورقة بحثية منشورة في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات والمتقدمة إن "العالم أصبح يعيش بين مطرقة الفيروس وسندان التدهور الاقتصادي، والبحث عن حل لمعادلة في غاية التعقيد تتمثل في الموازنة بين البعد الصحي والبعد الاقتصادي، وهي معادلة لا تأتي بنتائج مرضية بصورة كاملة في كل الأحوال". وأضافت الورقة المعنونة ب"كيف تستعيد بعض الدول الحياة الطبيعية في ظل كورونا، أنه "ظهرت في ألمانيا سياسة شهادات المناعة، ثم تبعتها بريطانيا تحت مسمى باسبور المناعة، ومن قبلهما الصين التي استحدثت سياسة الكود الملون، وهي الآلية التي تسمح للأفراد الذين كونوا مناعة ضد الفيروس أو البعيدين عن احتمالات الإصابة بممارسة بعض أنشطة الحياة اليومية العادية". وتوصلت الورقة إلى أن "الأزمة الحالية التي يمر بها العالم بأسره تستدعي ظهورَ أفكار وحلول خارج الصندوق، سياسات جديدة لم نختبرها من قبل استجابة لوضع استثنائي وأزمة معقدة ذات وجهين متضادين، فالنجاح على المستوى الصحي تُقابله خسارة فادحة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، والعكس صحيح، وتسارع كافة الدول الآن الزمن للوصول إلى مسار ثالث يوازن بين البعدين ويضع إطارًا جديدًا للتعايش مع كورونا". وأشارت الوثيقة إلى أنه "منذ تفشي الوباء، ركزت الإجراءات الصحية على تطبيق اختبارات الفيروس على أوسع نطاق ممكن لتسريع الخروج من هذه الأزمة من خلال عزل بؤر الوباء، وتطبيق التباعد الاجتماعي لوقف تفشي الفيروس؛ غير أن هذه الإجراءات-في مجملها-تهدف في النهاية إلى إبطاء معدلات انتشار الفيروس، ومن ثم تخفيف العبء على البنية الصحية من سيناريو استيعاب أعداد كبيرة من المصابين خلال فترة زمنية محدودة بصورة تفوق قدرتها على استيعابهم". وتشير العديد من التوقعات إلى استمرار تفشي الفيروس، وفق المصدر عينه، ولو بوتيرة بطيئة، لشهور قادمة، بل إن دولا مثل الكويت تتوقع استمرار كورونا إلى 2021، وهو ما دفع إلى التفكير في آليات تتمكن من خلالها الدول من التعايش مع الفيروس، مبرزاً أن ألمانيا أعلنت نيتها تطبيقَ اختبارات جديدة تُعرف باختبارات الأجسام المضادة، بدءًا من منتصف الشهر الجاري، تركز على تحديد الأفراد والفئات الذين كونوا مناعة ضد الفيروس، ومن ثم إصدار ما أسمته ب"شهادات المناعة" لهم، وهي الشهادات التي تسمح لهم بإنهاء العزلة وكسر الحجر الصحي. كما أشار وزير الصحة البريطاني إلى إمكانية إصدار ما أسماه "باسبور المناعة"، أو "إسورة المناعة"، للفئات التي تعافت من المرض، أو الذين أصيبوا بالفيروس دون ظهور أي أعراض واستطاعوا التغلب عليه، وتبين ذلك من خلال اختبارات المناعة. من جانبها، أعلنت الولاياتالمتحدة أن المفتاح الأساسي للعودة إلى العمل يتمثل في اختبارات المناعة، في إشارة إلى نيتها تطبيقَ السياسة ذاتها في أقرب وقت ممكن. وبخصوص أبعاد سياسة "المناعة المضادة"، فإن وزارة الصحة الألمانية وعددا كبيرا من المجموعات البحثية والمستشفيات تعمل على فحص عينات دم لحوالي مائة ألف شخص لاختبار الأجسام المضادة، تبعا للورقة، بحيث يعني وجود أجسام مضادة للفيروس أن الجسم قادر على محاربته، وقد يشير ذلك إلى كون الشخص كان حاملًا للفيروس دون ظهور أي أعراض عليه، وتمكن بالتالي من تكوين مناعة مضادة له، كما يعني أيضًا أن الشخص لن يتسبب في العدوى للآخرين. ويستهدف الباحثون تكرار الاختبارات على أكبر عدد ممكن من السكان لتتبع تطور الفيروس. وتُعوّل الدول على سياسة المناعة لتحقيق عددٍ من الأهداف، المتمثلة أساسا في تحديد خط الدفاع الأول، أي تحديد الفئة "المحصنة" للبدء في تدوير عجلة الاقتصاد ولو بمعدل أقل من المعتاد في البداية، ثم يتدرج الأمر حتى استعادة الطاقة الإنتاجية الكاملة، دون المخاطرة بصحة وأرواح الجمهور العام. الهدف الثاني هو إمكانية العمل في مسارين متوازيين؛ ففي حالة ثبوت نجاح هذه السياسة، تتمكن الدول من تحقيق التوازن بين المسارين، الصحي والاقتصادي على حد سواء. ومن ثمة، يمكن تنفيذ خطط تخفيف الحجر الصحي التي وضعتها بعض الدول تحت وطأة الخوف من العواقب الاقتصادية للإغلاق الكامل. يضاف إلى ذلك، دعم جهود العلاج بالبلازما؛ فمنذ انتشار الجائحة، تعكف العديد من الأطقم البحثية وشركات الأدوية والمؤسسات الصحية على إيجاد بروتوكول لعلاج الفيروس. ومن بين المحاولات العديدة، ظهر خط يركز على العلاج بالبلازما. وعلى الرغم من اعتبار شهادات المناعة فكرة جديرة بالتطبيق للموازنة بين الجوانب الصحية والاعتبارات الاقتصادية، والانتقال التدريجي إلى الحياة الطبيعية بعد العزل، إلا أنها قد أثارت جدلًا واسعًا، خاصة بين المتخصصين، ما بين مؤيدين يرون أنها خطوة واعدة، ومتحفظين ومشككين في النتائج المتوقعة منها. ومن بين العوائق التي أثارتها الورقة، نذكر التحديات الفنية المتصلة بعدم وجود ضمانات كافية تؤكد أن الأفراد الذين كونوا أجسامًا مضادة لديهم مناعة من التقاط العدوى مرة أخرى، وإمكانية ظهور "سوق سوداء"؛ ففي حالة تطبيق سياسات الشهادات، يخشى البعض من محاولات تزوير الشهادة وظهور سوق سوداء لذلك، خاصة مع طول فترة الحجر، علاوة على مخاوف الانقسام المجتمعي ووصم المرضى.