كل ما كتبناه حول مفهوم المعارضات ,كان كافيا كي نفكك ألاعيبها في الوطن العربي ,وكشف كل أوراق اللعب التي تستعملها ,كي تحرز على مساحات في رقعة المشهد السياسي ,أو الهيمنة عليه برمته ,المعارضة لم تحسم بعد في هويتها ,بين معارضة تسعى الى قلب الانظمة ,وتجهيز نفسها بديلا للبنية القائمة, وهذا طبعا ,لا يمكن ان يكون نزهة, ولعبا بباقات ورد او بخراطيش المياه ,وبين معارضة غايتها ان توجه امكانياتها لبناء المجتمع والاجابة على أسئلة التنمية و حسم كل مؤشرات الاحتقان الاجتماعي, معارضات مضطربة في الوطن العربي بين تصور يحمل هم الانسان و بين بنيه فكرية تخدم فئة دون الاخرى . اننا واذ نعتبر ان المعارضة كأحد اشكال النظم الحديثة ,لها من الاهمية ما يكفي كي تؤثث المشهد السياسي ,وتحاول ان تعطي دينامية للأداء الحكومي ,في نفس الوقت نحتاج الى توضيح المفهوم التكاملي للمعارضة ,المبني على الكفاءة و الانخراط الايجابي في قضايا التنمية ,وان التداول مسألة تحسمها الامزجة الشعبية والذوق السياسي العام, وليس التوجه الايديولوجي والشعبوي
المعارضات الراديكالية ,بين تجاذبات المصالح الذاتية و تدافع المشاريع السياسية ,هكذا يمكن ان نحلل المنفعة السياسية للفاعل الراديكالي, على الاقل كي ننصف تواجده في مرحلة ما من مراحل تطور الدولة,
قد نرصد معارضات تحمل مشروعا سياسيا نقيضا ,للمشاريع القائمة ,هذا ممكن من الناحية الاجتماعية و الفكرية ,يبقى السؤال هل يمكنها ان تتحقق ام لا ؟,هذا طبعا تحسمه الأدوات السياسية المتبعة ,سواء تعلق بانخراطها بشكل مزدوج في المنظومة السياسية ,وهذا محتمل لعدة اعتبارات :الانحصار الجماهيري ,الضعف الذاتي ,عدم توفر الشرط الموضوعي, قوة الأنظمة القائمة وقدرتها على تجفيف منابعها. طبعا الانظمة القائمة لا يمكنها ان تغفل مثل هاته التنظيمات ,لأنها تشكل خطرا على بنيتها الاجتماعية ,من خلال أطروحات عديدة ,الترويج للنفس العدمي ,والتصدي لكل مشاريع الاجتماعية من خلال تحوير اتجاهاتها ,هذا ما اعتبرناه انقلابا ناعما ,الغاية منه ان تفقد المؤسسات مصداقيتها, الدولة ملزمة بأن تحسم مع سلوكيات عديدة تؤسس للتشنج وحالة الاحتقان الاجتماعي ,المعارضة في هاته الحالة حتى وان انخرطت في العملية السياسية
تبقى رهينة فكرها التغييري المبني على مشروعها السياسي ,لأن تحولها التصوري لم يكن مراجعة خارج الضغط ,أو تحولا طبيعيا . هذا الوضع بالضبط هو ما يلزمنا أن نسم معارضات ما بعد الصياغة, انها معارضات مزدوجة, لأنها تحمل في كل مراحل تواجدها ذاكرة ثورية ونفسية مضطربة ,لأنها في وضع غير طبيعي و ان كان المناخ السياسي طبيعي في مجمله.
ردود فعلها هنا ,مبني على خلق حالة نفسية متوترة ,الغاية منها اعداد ارضية لازمات اجتماعية يمكنها ان تعصف بالبنية القائمة, وتقنع الشعوب ان من دعمته هو مصدر كل الازمات الاجتماعية والويلات.
هناك نوع من المعارضات الراديكالية لا تحمل مشاريع سياسية, لكنها تحمل افكار معادية للأنظمة القائمة ,مبنية على العلاقات التاريخية والتجاذبات التي لا تعرفها الا فئة قليلة في التنظيمات المعارضة ,وهنا تكون المعارضة غير منسجمة في بنيتها ,لان هناك من يتعامل مع الفكر الثوري من منطق براغماتي وليس من منطق القناعة والتبني, وهناك من يتوهم ان قيادة الفكر الثوري منسجمة في قناعتها التغييرية مع الخط الايديولوجي الذي تلبسه, هذا الازدواج سرعان ما يصطدم بواقع الامر, يمكن ان ينتج عنه نوع من التشظي وقد تظهر تصورات كامنة. كل مرة تبرز في صور عدائية للمجتمع و للأنظمة.
ان احتواء مثل هاته المعارضات لا يمكن ان يكون بالضبط والتحجيم فقط, بل الانظمة لها ان تجتهد في خلق جو يساهم في تجفيف منابعها, الاجابة الصارمة على سؤال التنمية وعدم التساهل مع كل اشكال الفساد ,الذي يسهم في انتهاز الفرص بدل من خلقها و الدفع في اطار سلم اجتماعي.
أفكار عدمية وعدائية أكثر من معارضة, هو ما يوجد في الوطن العربي ,أهدافها تتجاوز مصلحة الشعوب, للأسف من خلال تبني منطق راديكالي ,تصبح هاته المعارضات المتأزمة نفسيا والحاقدة على الوضع القائم ,تصبح في نظر من يلتزم خطها الايديولوجي معارضة لها مصداقية ,وهنا يظهر بشكل جلي قدرة المعارضات في تحويل الحسابات الشخصية الى بناء فكري قادر على ان يكون مشتلا للاستقطاب وفي نفس الوقت تخفي حقيقة ابعادها الاستراتيجية ,في الغالب هذا النموذج من المعارضات لا يعطي اهمية للعمل الاجتماعي الا بمقدار ما يجيش به ضد النظام القائم, كي يربك سيره العادي.
المعارضات حالة من التدافع بين المشاريع السياسية و بين الامزجة البراغماتية, هي حالة من التدافع المبني على الحسابات الشخصية ,وعلى القناعات المذهبية التي تعتبر الأنظمة القائمة أنظمة لا تصلح للقيادة ,مرة عبر الشيطنة ومرة عبر خلق حالة من الريب والشك المفضي الى نزع الشرعية الجماهيرية التي تتمتع بها الانظمة القائمة, هناك فرق بين من يحمل فكرة سليمة ويدافع عنها, كفكرة تصلح الوضع ولا تؤزمه, كي يجد لها مكانا في المشهد العام ,وبين من غايته تبني أي فكرة فقط لأنها تخدم معاداته للأنظمة القائمة, او هي الوسيلة الممكنة للتفاوض حول موقع في المشهد السياسي.
,هنا يستوطن لغز مهم جدا, متى تتحول الفكرة الاصلاحية الى حالة من دعوى التغيير الشامل ,من منطق موضوعي,؟ ومتى تكون الفكرة تحاملا على الانظمة ليس الا..؟ نعم سبق وان أشرنا الى أن المعارضات الراديكالية تكون أشرس من الأنظمة القائمة ان نجحت في امتلاك السلطة ,ومع ذلك نعمق الطرح كي نبين متى يكون التحول طبيعيا, ومتى يكون التحول نتيجة حالة نفسية تتراوح بين الحقد الذاتي و بين الرغبة في الحكم والوجاهة,
من الصعب جدا, ان نرصد متى تتحول المعارضات في الوطن العربي بشكل طبيعي ,وانها قادرة على اقناع الأنظمة, انها لم تعد تشكل خطرا على استمرارها واستقرارها, وان انخراطها في العملية السياسية مبني على قناعة خالصة. من اجل وضع طبيعي ,على الدولة في الوطن العربي ان تصنع معارضة قادرة على الاشتغال على مؤشرات التنمية, وتوفر لها كل آليات العمل, والحسم النهائي مع المعارضات الراديكالية, نعم صناعة معارضة, وهذا لا يتنافى مع السياق الديمقراطي للدولة, بل يدخل في اطار قدرة الدولة على تدبير كل مرافقها بشكل جيد ,
ان استمرار بعض القيادات في توريث تاريخ ومسارات العملية السياسية, في صفوف قيادات قادمة ليس لها ادني علاقة بالتوترات القديمة الناتجة عن صراع شرس حول الحكم, هو في الحقيقة نوع من استيراد الأزمة وتصديرها الى الاجيال القادمة, وهذا ما اعتبرناه حالة نفسية اكثر منه منطق علمي يحكم الفاعل السياسي في ادائه.
ان المعارضات قبل ان تتبنى فكرا ومنهجا تجمع عليه اتباعها ,تستدعي حالة نفسية مبنية على المظلومية, والشيطنة, في المجتمعات الاخلاقية, وخلق حالة من
الجدل بين النخبة والشعوب حين يتعلق الأمر بفكر جدلي الغاية منه تغذية الصراع والصدام,
ان ما تمتلكه المعارضات من قدرة رهيبة كي تورث حالتها النفسية (المبنية على منطق الصراع) للأجيال القادمة, يجعلنا نقف كي نسائل المنظومات التربوية في الوطن العربي وغيابها على ساحة السجال الفكري