ألقى "محمد النباوي" الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة، كلمة اليوم الإثنين 10 يونيو الجاري. وجاءت كلمة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بمناسبة الندوة التحسيسية حول المحكمة الجنائية الدولية، التي تنظمها مؤسسة النيابة العامة يومي 10 و11 من شهر يونيو. وهذا النص الكامل لكلمة "محمد عبد النباوي": حضرات السيدات والسادة؛ بعد حوالي ثلاثة أسابيع من اليوم، تُكْمِل المحكمة الجنائية الدولية سنتها السابعة عشرة، والتي توافق فاتح يوليوز (2002). وقد كان تأسيس هذه المحكمة تتويجاً لجهودٍ متعاقبة للمجتمع الدولي، من أجل وضع نظامٍ قضائي فعال لمحاكمة أكثر الجرائم بشاعة بالنسبة للإنسانية. ويبدو أن الدعوة إلى تحقيق هذا الحلم انطلقت منذ سنة 1872، حين نادى السيد جوستاف مويني Gustave Moynier، أحد مؤسسي اللجنة الدولية للصليب الأحمر بإنشاء محكمة دائمة لردع جرائم الحرب الفرنسية-البروسية. وتجددت الدعوة في بداية القرن العشرين حينما فكَّر محررو معاهدة فيرساي سنة 1919، في إنشاء محكمة لمحاكمة القيصر ومجرمي الحرب العالمية الأولى من الألمان وحلفائهم المنهزمين في الحرب. لقد كانت الحروب المستمرة التي عاشتها أروبا خلال القرن التاسع عشر، مبعثاً للتفكير في إسهام العدالة الدولية في نزع فتيل إشعال الحروب، أو على الأقل في التقليص من وحشية معاملة المدنيين وأسرى الحرب خلالها. ثم أكدت الحربان العالميتان اللتان كانت أروبا كذلك، هي منطلقهما خلال القرن العشرين، مدى الحاجة إلى قضاء دولي قادر على كبح جماح المستهترين بالمبادئ السامية لحماية حقوق الإنسان، وذلك نظراً لكون فاتورة هاتين الحربين كانت مكلفة للإنسانية. حيث أودت الحرب الكونية الأولى ب16 مليون قتيل و20 مليون مصاب. وأما الحرب العالمية الثانية فقد عصفت بأرواح أكثر من 60 مليون قتيل. وهو ما كان يمثل 2.5% من سكان العالم آنذاك. ولذلك فقد أفضت هذه الحرب إلى إنشاء محكمة نورنبورغ ومحكمة طوكيو لمحاكمة مجرمي الحرب من دول المحور. وهما محكمتان مؤقتتان كانت مهمتهما محددة في الزمان والمكان، انتهت بانتهاء محاكمات المتورطين في جرائم الحرب المرتكبة خلال الحرب العالمية الثانية بين 1939 و1945. ثم استمرت جهود المجتمع الدولي في اتجاه تجسيد نظام دائم للعدالة الجنائية الدولية باعتماد اتفاقية وقاية ومنع جرائم الإبادة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 واتفاقيات جنيف الأربع سنة 1949. ولكن الجهود المبذولة بين 1949 و1954 لإعداد مشروع محكمة جنائية دولية باءت بالفشل بسبب الحرب الباردة واختلاف الدول العظمى في تحديد مفهوم جريمة العدوان. وكان لانتهاء الحرب الباردة سنة 1989، ولتدخلات الأممالمتحدة للحفاظ عن السلم في عدة مناطق بالعالم واضطرارها إلى إنشاء محكمتين جنائيتين مؤقتتين لمحاكمة مجرمي الحرب والنزاعات المسلحة في "يوغوسلافيا" السابقة ورواندا سنتي 1993 و1994، فضلٌ في إحياء الفكرة، التي أفضَت إلى تأسيس المحكمة الجنائية الدولية الدائمة التي نتشرف اليوم بحضور السيدة فاتو بنسودة المدعية العامة لديها، بيننا. حضرات السيدات والسادة؛ لقد ساهمت المملكة المغربية في المفاوضات التي قادت إلى إعداد مشروع نظام روما حول المحكمة الجنائية الدولية، ووقعت على هذا النظام في 20 شتنبر 2000 دون التصديق عليه. ومنذ ذلك التاريخ زاد اهتمام المملكة بملاءمة قوانينها مع مقتضيات القانون الدولي الإنساني –ومن بينها تجريم جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. والتي تشكل، بالإضافة إلى جريمة العدوان، مناط اختصاص المحكمة الجنائية الدولية–. وهكذا نص الفصل 23 من الدستور على أنْ "يعاقب القانون على جريمة الإبادة وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وكافة الانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان". ثم انطلق مسار ملاءمة التشريع الوطني الداخلي مع مختلف المواثيق الدولية ذات الصلة التي صادقت عليها المملكة المغربية كمنع تقادم الجرائم، التي تنص الاتفاقيات التي صادقت عليها المملكة على عدم تقادمها، وتجريم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان كالتعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة. ولم تكتف المملكة المغربية بملاءمة تشريعاتها مع الاتفاقيات التي صادقت عليها، والذي يعتبر أمراً عادياً. ولكنها – سيراً على المبادئ المقررة بمقتضى دستورها – تمضي نحو بناء دولة ديمقراطية "تؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، وتؤكد عزمها على مواصلة العمل للمحافظة على السلام والأمن في العالم ... وحماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما؛ مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء" (كما جاء في تصدير الدستور). ولذلك فإن مشروع تعديل القانون الجنائي المعروض على البرلمان منذ سنة 2016 تضمن مقتضيات مهمة بشأن تجريم جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وهو ما ينتظر منه تعزيز الترسانة القانونية الوطنية لمواجهة هذه الجرائم، التي نرجو الله ألاَّ تطال بلدنا. ولكن الحاجة للقانون قد تكون واجبة كذلك للردّ على هذا النوع من الانتهاكات حين ترتكب في دول أخرى ويفر مرتكبوها إلى المغرب مثلاً، أو في حالات أخرى يتطلبها التعاون القضائي الدولي والتضامن الإنساني. وقد أكد جلالة الملك محمد السادس نصره الله في رسالته السامية بمناسبة الذكرى السبعين لإقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على هذه السياسة التضامنية بالقول الكريم : "إننا نؤكد مجدداً تشبت المملكة المغربية بالنهج متعدد الأطراف، القائم على تضامن الشعوب والسعي إلى السلم والسلام والطابع الكوني للحقوق". حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛ إن قيام الدول بدورها في محاربة الجرائم ضد الإنسانية الأكثر فظاعة، لا يتوقف على قرار المصادقة على معاهدة روما حول المحكمة الجنائية الدولية، والذي يظل قراراً سيادياً تتخذه الدول وفقاً لاعتبارات سيادية تخصها. -وهو شأن ليس من صميم مهامنا نحن القضاة، بقدر ما يتوقف على ما يوفره القانون الداخلي من مقتضيات، يمكن بواسطتها تحقيق جوهر الفلسفة العقابية، الذي أُنْشِئَتْ على أساسه المحكمة الجنائية الدولية، والمتمثل في التكامل مع الأنظمة القضائية الوطنية لمختلف الدول، وذلك لأن المحكمة الجنائية الدولية لا تتدخل لمحاكمة الجرائم الداخلة في ولايتها، إلاَّ في حالة عدم تدخل القضاء الوطني بالدولة المختصة إما بسبب عدم قدرته أو عدم رغبته. أما إذا كان القضاء الوطني قادراً على الاضطلاع باختصاصاته الأصلية في إقامة العدالة بشأن تلك الجرائم، فإن المحكمة الجنائية الدولية لا تكون معنية بالقضية. كما أن تطبيق مبدأ التكامل هذا، لا يقتضي بالضرورة أن تكون الدولة المعنية طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية وصادقت على نظام روما، لأن المحكمة المذكورة يمكنها أن تبسط اختصاصها بالنسبة للدول غير الأطراف. إذا وافقت الدولة المعنية على ذلك أو إذا قرّر مجلس الأمن إحالة القضية على المحكمة. ولذلك فإن بناء نظام عدالة وطني قوي، مستقل، نزيه ومتخصص يعتبر مبتغا ذاتياً داخلياً لكل المجتمعات، يجنبها تدخل جهات أخرى، وفي مقدمتها القضاء الدولي. ومن هذا المنطلق تحرص رئاسة النيابة العامة على تقوية قدرات قضاتها من أجل استيعاب دور العدالة الجنائية الدولية والإلمامِ ببُعدِها التكاملي مع القضاء الوطني، والتعريف بالجرائم الخطيرة التي تعتبرُ مناط اهتمام القضاء الدولي. ولذلك فقد سَعِدْنَا بموافقة السيدة فاتو بنسودة المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية للإشراف على هذين اليومين التحسيسييْن المنظمين لفائدة أعضاء النيابة العامة، كما نسعد بفريق الخبراء المتميزين الذين يشرفون على تأطير هذه الندوة، التي دعي للاستفادة منها أعلى أطر النيابة العامة بالمملكة الذين يمثلهم السادة الوكلاء العامون للملك لدى محاكم الاستئناف وبعض المحامين العامين لدى محكمة النقض، وبعض وكلاء الملك بالمحاكم. ونحن نريد بمثل هذه اللقاءات استحضار أهمية الموضوع من طرف الجهات القضائية التي تملك القرار. مؤملين أن يحمل المسؤولون القضائيون الحاضرون، المشعل للاهتمام بالموضوع على مستوى دوائرهم، وأن نكون جميعاً متأهبين لاستقبال التعديلات التشريعية المتعلقة بجرائم القانون الدولي الإنساني التي تناقش من طرف البرلمان، والتي ستكون من أولويات اهتمامات السياسة الجنائية التي ستوليها رئاسة النيابة العامة الاهتمام اللازم في الدراسة والمناقشة على مستوى النصوص، من أجل فهمها واستيعاب أركانها وعناصرها، حتى يتم تنفيذها وفقاً لفلسفة المشرِّع، وفي إطار المفهوم الكوني الشامل للحقوق التي يسعى التشريع الجنائي إلى حمايتها ومنع انتهاكها. أيتها السيدات أيها السادة؛ أود في نهاية الكلمة تقديم جزيل الشكر للسيدة المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، السيدة فاتو بنسودة، التي حرصت رغم شدة انشغالاتها وكثرة مهامها على المساهمة في تأطير هذه الندوة التحسيسية بمداخلة قيمة ننتظرها جميعاً بفارغ الصبر ونتطلع إليها بكثير من الاهتمام. كما أشكر السادة الخبراء الذين يشاركون في تحقيق الهدف من هذه الندوة، والذين تحملوا مشقة السفر لذلك، وأرجو أن يجدوا بالمغرب بلد التسامح والتعايش السلمي، وفي مواطنيه الطيبين المضيافين، ما يخفف من ذلك العناء. كما أود باسمي، وباسم السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية أن أشكر السيد وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والسيد وزير العدل والسيد وسيط المملكة والسيدة رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان والسيد المندوب الوزاري المكلف بحقوق الإنسان والسادة أعضاء المحكمة الدستورية وأعضاء المجلس الأعلى للقضاء وجميع الأساتذة الجامعيين والقضاة الحاضرين على مشاركتنا في هذه الجلسة الافتتاحية، وأدعو كل من تسمح ظروفه من بينهم للاستمرار معنا في الجلسات العلمية للندوة. وأرحب بالسادة الوكلاء العامين للملك وباقي قضاة النيابة العامة في بيتهم الذي يسعد بحضورهم ويقدر جهودهم الكبيرة ليكونوا في مستوى المسؤوليات الجسام التي قلدهم إياها صاحب الجلالة المؤيد بنصر الله. وأشكر جميع الحاضرين والمنظمين. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة مَحمد عبد النباوي