كلما تجدد الفشل في تدبير الشأن العام في السنوات القليلة الماضية إلا و تجدد الحديث عن القادة العظام الذين ارتبط اسمهم بهذه المحن التي عان منها المواطن المغربي و لازال يعاني إلى اليوم.
حينها لن تجد إلا شخصا واحدا غيب ظن الأنصار قبل الخصوم, اسم يتردد صداه في المجالس و الجموع و البرلمان. شخص مثير للجدل قبل أن ينتهي به الأمر متقاعد مع سبق الاصرار و الترصد.
و يعد القائد الهمام السيد بنكيران الرجل الأول على رأس هذه اللائحة, فشهرته تسبقه كأول رئيس حكومة في تاريخ المملكة بصلاحيات دستورية واسعة, و إصلاحات (خاوية) أوسع منها.
فلقد حاول بنكيران جاهدا التعجيل ب"إصلاح" الوظيفة العمومية من خلال,
1. صناديق التقاعد من جيوب الطبقة الكادحة.
2. فصل التكوين عن التوظيف و اقرار التعاقد.
لكنه لم يفلح, و رغم ذلك لم يتوقف بل أقسم على المواصلة مهما كانت النتائج. و أصم أذنه عن كل الأصوات التي سفهت أحلامه, و عارضت تطلعاته في هذا الشأن.
في غياب الخبراء أهل الاختصاص:
باشر بنكيران سلسلة مجازر في حق المكتسبات التي ناضل من أجلها العديد من الشرفاء الذين كانوا يمنون النفس بتوفير عدالة في الوظائف, و كانوا يحلمون بتقاعد عادل و منصف لكل موظف أفنى زهرة حياته في خدمة الوظيفة العمومية.
هذا و يعد التعاقد من الاجتهادات غير المأجور عنها التي تشدق الرجل و حكومته بتفصيلها عشوائيا في غفلة من الجميع.
و يعد هذا الاجتهاد لاغيا لسبب واحد هو "لا اجتهاد مع وجود النص".... حكاية المرسومين و القصة المشهورة مع فوج الكرامة و قسم اليمين الذي حلفه رئيس الحكومة و لم يندم على الحنث فيه, لكنه لم يستوعب الدرس.
و نص العقدة الموقعة مع الأكاديمية و الملحق المرفوض مؤخرا.
و أيضا يقع الاجتهاد فاسدا و باطلا , أي لا عبرة به إذا صدر ممن ليس أهلا له, أو أنزل في غير محله, وهو ما وقع فعلا في هذا الملف.
و مع اصرار ساستنا على فرض التعاقد تخرج لنا جيل جديد يقضي وقتا في الشارع ليلا و نهارا محتجا -مكرها- مطالبا بحقه الأساس في الإدماج, وقتا يفوق بكثير ما قضاه في التكوين.
جيل حرك منظومة التربية و التعليم المهزوزة أصلا, كما أصابها برجة قوية تحرك معها كل الفاعلين من أطياف المشهد التربوي, مفتشون, ادارة, دكاترة, حملة الشهادات, زنزانة9,...
و يعد هذا الوضع الذي آلت إليه التربية و التعليم ببلادنا نتاج إدارة حكومية غير مؤهلة و سياسة فاشلة لمرتزقة الانتخابات و سوء تدبير الشأن العام, و تصارع قوى انتخابية حول -الخوا الخاوي- للفوز بحقيبة, أو ملء أكياس الحلوى, أو الظفر بحصانة من المجلس التشريعي, أو التنعم بتقاعد سمين مدى الحياة بعد قتل ضمير المواطنة, و تصفية خصوم الزحام الانتخابي.
سياق الكاوارث:
و بعد التراجع في الأداء السياسي للأحزاب الانتخابية الذي عرفه المغرب, و ذلك في شكل توزيع الغنائم الانتخابية (الحقائب) و (المناصب) بين الفرقاء, غرماء الأمس حلفاء اليوم, و لعبة البلوكاج السياسي, و تبديل بنكيران بالعثماني (بلعاني).
هكذا أضاع الساسة فرصة على المغرب كان ليتبوأ فيها الريادة في المنطقة في مجموعة من المجالات كالتعليم و الصحة...
انهيار الثقة هذا يضع مستقبل البلاد في زاوية الحرج, و عدم الاستفادة من (ربيع عربي) مهد الطريق أمام المغرب لتسويق نموذجه الاستقراري, و الاستفادة من جلب الاستثمارات الطامعة في الأجواء الآمنة و البيئات المستقرة, خصوصا تلك العابرة للقارات و الهاربة من بيئات كانت بالأمس القريب منافس حقيقي للمغرب (تونس مثلا).
فشل بعد آخر, أي ضمانات يقدمها الساسة لهذا الوطن.
بعد أن اشتد الصراع حول الزعامة بين حزب المصباح من جهة.
الحزب ذو المرجعية الإسلامية التي (تتسع) لكل المغاربة و المظلومين للبكاء على التماسيح و لعن العفاريت, و التباكي على حائط المناصب, و التمسح بملايين الرواتب و التعويضات المخصصة لذوي السوابق (النضالية), و الازدواجية الانتمائية, و التعددية الزوجية, ضد خصمه حزب الجرار في مرحلة أولى, الحزب الذي ذهب ادراج الرياح بسرعة الأيام.
لكن مروره لم يكن بالمجان فقد كلف المصباح تراجعات كبيرة أفقدته بريقه بعد أن تخلى عن شعار محاربة الفساد و الريع, فأضاع اتجاهات بوصلته في أتون حرب ورقية و زوبعة في فنجان من أجل تبرير -الريع- و الدفاع عنه.
و ذلك ما جعل شيخه ينعم بخلوة يسبح فيها بحمد السياسة, و يكبر بشكر التقاعد الاستثنائي.
و في مرحلة ثانية تسلم المشعل حزب الحمامة (البرجوازي) الذي وقف ندا لحركة (المزاليط) الملتحقة حديثا بركب رؤوس الأموال بعد ولايتين حكوميتين فقط, محقوا فيها الطبقة الوسطى بالضرائب و تجميد الرواتب و الأجور.
طبقة (المزاليط) التي تأكل النعمة و تسب الملة. فئة تصارع من أجل تسخين مقعدها بين أبناء (المرفحين) الذين شبعوا على ظهر الشعب بعد تحرير سعر (المكروبات) اقصد المحروقات, و تلقوا تعليما -كلاس- بالبعثات و خارج أرض الوطن.
هذا و يظهر انفصام السياسة بالبلاد في ظل مشهد حكومي متناقض, اختلط فيه مزيج من المساندة و المعارضة, في وقت أضحت فيه المعارضة في خبر كان, -حزب الجرار و من معه-
أكذوبة الخيار الاستراتيجي:
لقد تردد في الآونة الأخيرة على لسان الساسة المغاربة و خصوصا من أصحاب الحقائب الانتخابية مفهوم (الخيار الاستراتيجي) كموضة حديثة للتباهي أمام الرأي العام, أو ربما لتشتيت أفكار المواطن و إعطاء انطباع بأن الأمر جدي أو يفوق قدراته الفكرية و العقلية, أو أن الأمر محسوم فيه و غير قابل للنقاش أو المراجعة.
لكن لنذكر ساستنا بماهية هذا المفهوم الذي لا يعرفون معناه الصحيح أصلا أو لنقل -على الأقل- يتجاهلون ذلك و لا يريدون أن يعرفه عامة الشعب,
الخيار الاستراتيجي ببساطة هو تعبئة جميع موارد الدولة لتحقيق غاية عليا تخدم مصلحة الوطن و تحصين مكتسباته.
و هو بالطبع يخالف ما ذهبت إليه حكومة العدالة و التنمية بجعل المواطن في مواجهة الأجهزة الأمنية بشوارع المملكة, أو تركه بدون حماية وجها لوجه مع الأزمات و التقلبات الاقتصادية خصوصا بعد إلغاء صندوق المقاصة و تحرير سوق -المكروبا- المحروقات و الاستعداد لرفع الدعم عن البوطة الكبيرة و الصغيرة و كذا القالب السكري…
و قد تكلف بالقالب السكري وزير الحكامة الشيخ الداودي بكل (بسالة) و شجاعة و حنكة و لياقة لسانية داخل و خارج البرلمان.
ليخلق الحدث مع مجلس المنافسة أياما قليلا بعد تنصيبه, و ذلك على خلفية اعتماد تسقيف سعر -المكروبات- المحروقات.
سياسة التضليل و الخيار الفاشل:
أمام هذه الكوارث التي تسبب فيها الأب الروحي للعدالة و التنمية و من معه, كوارث في الصحة و التعليم, و ما خفي كان أعظم, ألا يستحق المساءلة على الأقل تفعيلا لمبدأ
"ربط المسؤولية بالمحاسبة"
في خضم تراكم جملة من الاخفاقات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ملف بيداغوجيا الادماج الذي أوقفه بكل شجاعة محمد الوفا الوزير الاستقلالي السابق, لكن دون محاسبة.
و في سياق هذه الأحداث فقد نجحت الحكومة بسياستها البعيدة عن الواقع و الرامية إلى سداد الدين الخارجية, و الانبطاح في حضن الإملاء اللوبيات الداخلية و الضغط الخارجي لصندوق النقد الدولي, إلى جر الأطفال الى الاحتجاج ضد الساعة الاضافية. كما نجحت اليوم في تكرر نفس الخطأ و منحت لأطفال المدارس فرصة للنزول الى الشارع مرة أخرى خصوصا بعد أن فشلت في توفير أو لنقل الاحتفاظ بالأساتذة داخل الأقسام و الفصول الدراسية.
كما لم تنجح أيضا في تضليل الرأي العالم رغم محاولاتها الحتية لذلك لتأليب الرأي العام ضد الاساتذة المضربين.
بل بالعكس من ذلك فقد لقي ملف الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد التأييد و التضامن من فئات عريضة من المجتمع.
خيارات الحكومة أمام التهديد:
لم يعد أمام الحكومة المغربية إلا خيارات قليلة, أولها حل الحكومة و البرلمان و الذهاب الى انتخابات مبكرة, و هو خيار مستبعد جدا فلا أحد من الكائنات الانتخابية يجرؤ على ذلك لتكلفته من جهة, و لعدم القدرة على فعل ذلك من داخل البرلمان أو من خلال الأغلبية الحكومية.
و الخيار الثاني أن تطلب الحكومة من المانحين و خصوصا النقد الدولي اعادة جدولة الديون مع الادعان لشروطه المجحفة, و هو أمر مستبعد لكنه وارد.
وحدها الأيام المقبلة هي الكفيلة بالكشف عن المستور.