ونحن نطل برؤوسنا على العام 2020، وما لذلك من رمزية كبيرة في ما يخص التطور بما يحمله من متغيرات على المستوى الدولي، غير أنه، ورغم كل ذلك، لازالت بين الفينة والأخرى تطل علينا بعض "التحف" أو بعض الرومنطقيين ممن تأبى عقولهم التصديق أن المغرب ليس مستعمرة فرنسية أو مقاطعة تابعة لباريس، وترفض أن تتخلى عن العيش على وقع أوهام الماضي والاندماج في العصر، بما يفرضه من تحرر من الانغلاق في الفرنكفونية والتبعية العقلية والعاطفية لجمهورية فرنسا التي ليس بيننا وبينها إلا الخير والإحسان. هؤلاء الذين ابتليت بهم مؤسساتنا الوطنية، ممن يصرون على جعل لغة فرنسا الميتة، لغة للنخبة ضدا على الواقع الذي يفند كل تلك الأراجيف والأباطيل، التي يصرون بها على جعلها لغة الثقافة والتثقيف في هذا البلد، ولا أعلم يقينا، ما إن كان هؤلاء المتفرنسون الحالمون يتابعون المستجدات في المجال وما تنشره وسائل الإعلام الوطنية والعربية من تقارير بشأن الساحة الثقافية والأدبية في البلاد. هؤلاء المتفرنسون ممن تأبى أفئدتهم أن تصدق بأن مغرب اليوم مغاير تماما عن مغرب السبعينات أو الستينات، وأن لغة فرنسا التي كانت وسيلة للتفاخر واثبات الانتماء إلى العصر، هي اليوم شكل من أشكال الماضي ومظهر من مظاهر الانغلاق على العالم ككل بما فيه العالم العربي والوطن، كما أن الإصرار على استعمالها كوسيلة للتفاخر، هو أيضا دليل على الأفكار البالية والعقلية القديمة التي تتحكم في هؤلاء المتفرنسين. ونحن هنا طبعا لا نحاكم أحدا على اختياراته الشخصية، وإنما نتحدث حصرا عن تلك الفئة من ضحايا السياسة الاستعمارية الفرنسية، ممن تجدهم في الإدارات والمؤسسات بغض النظر عن مستوى مسؤوليتهم، وهم، ممن لا تريد عقولهم أن تتقبل أن لهذا البلد ومؤسساته لغة وطنية هي اللغة العربية، ولا يمكن للغة أجنبية أن تكون شريكة لها، أو أن تحل محلها، وأن المواطن يجب أن يخاطب بلغته لا بلغة شعب آخر يوجد في قارة أخرى.
لقد مللنا من تلك الأسطوانة المتكررة والمملة التي تصر على جعل الفرنسية في بلدنا هي السبيل للانفتاح على العالم، وهي الطريق إلى المعرفة الأدبية والفكرية، وأنك ولكي ترفع من مستواك الثقافي والاجتماعي ما عليك إلا بهذه اللغة العجيبة. مثل هذا الكلام، ربما كان له بعض الصدى في سنوات السبعينات، أين كان يجد من الأذان من تقتنع به، أما في عصر الثورة العلمية والمعلوماتية، اليوم، فمثل هذا الحديث هو دليل على أن صاحبه يعيش خارج العصر. فبالنسبة لحجم حضور لغة فرنسا في الانترنت فما على المشكك في حقيقة تخلف هذه اللغة الميتة إلا البحث في غوغل عن حجم المحتوى المكتوب بها، ليتأكد كم ظلمته هذه الدولة عندما حرمته من حقه في تعلم الانكليزية منذ السلك الابتدائي، وليعرف كم أضاع من عمره لتعلم لغة تسير نحو الاندثار والموت، وليشعر بأنه كان غافلا عندما عول على هذه اللغة المتخلفة من أجل الانفتاح على العالم.. فلكم هي مضحكة تلك الجملة التي يرددها بعض المهووسين بهذه اللغة العجيبة، عندما يحدثونك عن لغة فرنسا على أنها طريقك للانفتاح على العالم.
اليوم، التقارير تؤكد بالدليل عكس ما يعيشه ضحايا الحقبة الاستعمارية من تضليل فكري ومعلوماتي، وكم من الحقائق غابت عنهم وهم في الوهم تائهون حسبهم أنها لغة ثقافة وأدب، على الأقل داخل المغرب، وهم يعتقدون خطأ أنها بالفعل لغة النخبة. اليوم، أمامنا تقرير بالغ الأهمية، يرصد الحياة الثقافية في المغرب، فيما يخص لغة النشر والمطبوعات التي هي المؤشر الذي يضعنا أمام المتغيرات التي يعرفها المجتمع المغربي، وأقصد بذلك التقرير الذي أصدرته مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية حول النشر والكتاب في المغرب، والذي جاء فيه أن "سيرورة تعريب قطاع الثقافة والنشر بالمغرب (...) تترسخ بشكل واضح" ذلك، أن الكتب المنشورة باللغة العربية 81 في المائة، بينما نظيرتها المنشورة باللغة الفرنسية بالكاد تجاوزت 16 بالمائة من حصيلة النشر المغربي، وهذا المعطى يكشف بالأرقام حجم الجهل الذي يعشش في بعض العقول التي تصر على معاكسة عقارب الزمن وترفض الاعتراف بالواقع المعاصر، فعندما يطالع ذات التقرير بأن نسبة الكتب المنشورة بالعربية مقابل تلك المنشورة بلغة فرنسا، مع العلم أنه لا يخفى حجم الدعم الذي تقدمه المراكز "الثقافية" الاستعمارية الفرنسية لنشر الكتب المكتوبة بلغتها، سيتأكد للجميع أن لغة فرنسا في المغرب، لا هي لغة ثقافة ولا هي لغة نخبة ولا هي لغة انفتاح، وأنها لا تتجاوز أن تكون لغة صالونات حلاقة وتجميل و"بوتيكات" الملابس في شارع المسيرة بالدار البيضاء وبعض مراكز "البيديكير والمانكير" ولغة "الزواق الخاوي".. فحتى الاقتصاد، فمن المهين للعقل اعتبارها لغة للمال والأعمال، ولو كان ذلك حقيقة لما وجدنا الشركات الفرنسية تستعمل الانكليزية في معاملاتها الخارجية وفي تواصلها مع الخارج، بل انه في الوقت الذي لازالت معظم المؤسسات الاقتصادية في المغرب منغلقة على لغة فرنسا الميتة، نجد نظيراتها الفرنسية لا تكاد تخلوا مواقعها الالكترونية من نسخ بالانكليزية، فلو عولت فرنسا على لغتها المتخلفة لكان حالها في الحضيض..
لغة فرنسا هي القفل الذي وضعه المستعمر الفرنسي على باب الانفتاح في المغرب، لكي يضل هذا الشعب العريق منغلقا ممنوعا من النظر والتطلع إلى العالم الرحب الفسيح، خاصة أننا نعيش عالما معاصرا لا يعترف في مجال التواصل بشيء اسمه الحدود. الفرنسية ليست مجرد لغة في المغرب، بل إن تواجدها المفروض بالإكراه وخارج القانون وضدا على قرارات المحاكم المغربية، في جميع مجالات الحياة، هو شكل من أشكال الاستعمار، وجب على الحكومة إنهاءه وفقا للدستور وللقانون الدولي الذي يمنع استمرار مظاهر الاستعمار، وما على المشكك في هذا الوصف إلا النظر بعين المتأمل إلى خريطة المناطق التي خضعت للاستعمارين الفرنسي والانكليزي، حيث تظهر جليا البلدان التي استقلت عن بريطانيا والتي رغم احتفاظها بالانكليزية لغة ثانية، غير أنها لا تعاني نفس الوضع الكارثي الذي تعانيه البلدان التي استقلت عن فرنسا واحتفظت بلغتها، من حيث الهيمنة اللغوية، وهي البلدان التي أطلقت عليها فرنسا وصفا تحقيريا وهو "البلدان الفرنكفونية" بمعنى البلدان الواقعة تحت الاستعمار الجديد الذي يفرض لغة المستعمر لكي يخضع البلد كليا باقتصاده وقراراته وسياساته لباريس، فعلى الرغم من مكانة اللغة الانكليزية وقوتها العالمية، غير أن البلدان التي تستعملها كلغة أجنبية لا تعاني منها بالشكل الذي تعاني منه نظيراتها التي ورثت الفرنسية عن الحقبة الاستعمارية، رغم ضعفها الشديد وتخلفها دوليا. فما السبب يا ثرى وراء هذا الحضور المهيمن للفرنسية؟ وهل الأمر يتعلق بالصدفة؟ أكيد لا وجود لشيء اسمه الصدفة في هذا الباب، لأن الأمر يتعلق بسياسة إخضاع استعمارية نهجتها فرنسا منذ السنوات الأولى لخروجها من تلك المستعمرات، ولذلك سارعت إلى تأسيس منظمة استعمارية تسمى "المنظمة الدولية للفرنكفونية" وهي أداة فرنسا لربط تلك البلدان بالعاصمة باريس باعتبارها مركز القرار، ومن تم تعميق التغلغل في مؤسساتها وتدعيم لوبياتها ممن أهلتهم داخل مدارسها الاستعمارية، وثمة أساليب عدة تنهجها فرنسا التي تنهج سياستين خارجيتين، أحداها دبلوماسية حديثة موجهة لبلدان العالم الفسيح، والأخرى سياسة استعمارية رجعية لم تتغير إلا شكلا وآلياتيا وهي موجهة لمجالها الفرنكفوني الضيق، حيث العقل الاستعماري في باريس لازال يرى في هذه البلدان جزء من الحظيرة الإمبراطورية التي ينبغي الحفاظ عليها تحت السيطرة، كسوق لسلعها وكمنجم تنهب ثرواته حتى تجففها عن آخرها، وهذه السياسة المافيوية التي أفقرت بها فرنسا هذه البلدان لا يسع المجال للتفصيل فيها ولكن سنعود لها في مقالة لاحقة.
خلاصة القول، لغة فرنسا في المغرب أصبحت أداة لخلق الصراع وضرب الاستقرار، ووسيلة لإضعاف الشخصية المغربية، وتحقير الدستور والقرارات القضائية، والأخطر طبعا، أنها القفل الذي يمنع المغاربة من الانفتاح على العالم، لذلك فلا مناص من إلغاء هذه اللغة الميتة وتبني الانكليزية كلغة أجنبية للتعامل مع الخارج، وطبعا، تعريب كل ما يمكن تعريبه (...).