بعد أربع سنوات من الاشتغال على إعدادها، أفرجت وزارة التربية الوطنية في حكومة سعد الدين العثماني، على "المنهاج التعليمي" الجديد، الذي روجت له بعض الأطراف على أنه سيحدث ثورة تعليمية ستُنهي عهودا من التراجع والفشل التعليمي والعلمي بدأ منذ بدايات الاستقلال. المنهاج التعليمي، شمل اللغة العربية والفرنسية والرياضيات والنشاط العلمي. وقبل أن نتطرق لصلب الموضوع، لابد من التذكير بهذه "الأبيات الشعرية" الفرنسية الخالدة: "قالت حكومة فرنسا، التي لا يهمها في الدنيا سوى مصلحة مواطنيها، أنها مُقبلة على اتخاذ خطوات من شأنها تقوية حضور اللغة الانكليزية لدى الطلبة لإعدادهم لغزو العالم". { من الخطوات التي وعدت بها حكومة باريس جعل تخطي اختبار شهادة دولية معترف بها في الانكليزية إلزامية على الطلبة في المرحلتين الثانوية والجامعية، تتكفل الدول بالإنفاق عليها }. "قال رئيس الوزراء الفرنسي ادوار فليب إن الانكليزية حاليا هي اللغة الأوسع في مجال التواصل بين الشعوب.. وأضاف مخاطبا الشاب الفرنسي: عليك أن تتحدث بها (الفرنسية) إذا أردت الانخراط في العولمة". ختم فليب كلامه في مؤتمر شبابي متحدثا عما سبق ذكره: "لدي قناعة بأن تلك الإجراءات ستحدث تغييرات كبرى ستساعد المزيد من الفرنسيين على الخروج لغزو العالم". (انتهى "الشعر"). وفيما وعد المسئول الحكومي الفرنسي ب"غزو العالم"، لم نسمع أي كلام مماثل من رئيس حكومتنا المنتمي للحزب الإسلامي الذي ملأ الدنيا ضجيجا، سنوات المعارضة، متهما الحكومات السابقة، بتكريس التبعية لفرنسا، هذا وقد كانت وقتها، تُدرس اللغة الفرنسية بدء من القسم الثالث، بينما الحزب كان يطالب بانفتاح شامل على العالم من خلال الاهتمام باللغة الانكليزية.. حكومة الدكتور سعد الدين العثماني، ومنذ رأت النور، أكدت بما لا يدع للشك مجالا، أنها تلميذ مطيع للمؤسسات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد وباقي الشركاء المهيمنين، ولذلك لم تتورع في إنهاك القدرة الشرائية والمعيشية والصحية للمواطن. ولكي لا تترك لأصدقائها الفرنسيين واللوبيات الفرنكو- اقتصادية المهيمنة في المغرب، أي مجال للشك في إخلاصها، سارعت إلى خلط تركيبة رديئة تهدف إلى إنقاذ لغة فرنسا من موت بات على وشك أن يطرق أبوابها، وذلك عبر الإجهاز على حق الطفل المغربي في إتقان اللغات الأكثر انتشارا في العالم، وهو حق مكتوب في الدستور، وضرب مستقبله، من خلال ترسيخ وتعميق شعوره بالتبعية المُذلة، والانغلاق اللغوي الذي فرضته اللغة الفرنسية المحدودة الانتشار، وذلك بشكل رسمي، بواسطة "المنهاج التعليمي" الجديد أو ما يُعرف في العديد من الأوساط ب"المنظومة التعليمية" الذي لم يظل لواضعيه سوى رفع اللغة الفرنسية إلى مرتبة القداسة بكثرة ما أفحموها بجمل الإطراء والتفخيم والتعظيم، ومن خلال ترقيتها، وذلك بإدراجها في القسم الأول ابتدائي وما فوقه. من حيث الشكل، الوثيقة التي نشرت على موقع الوزارة، وحملت عنوان "المنهاج الدراسي للتعليم الابتدائي" وهي في 147 صفحة، القسم الذي يشمل اللغة الفرنسية وهو من عشرات الصفحات، كتب بلغة أجنبية (الفرنسية) وهو خرق واضح فاضح للفصل الخامس من الدستور وتحقير لمقرر قضائي قضى بالحرف أن "الفرنسية لغة غير قانونية في الإدارة المغربية" ما يعني أن هذا الجزء باطل قانونيا وغير ملزم. رئيس وزراء الحكومة المغربية، الذي لم يتحدث يوما إلى الشباب المغربي المتطلع إلى مجتمع المعرفة والتكنلوجيا العالمي، على ضرورة "غزو العالم" مادامت لدينا كل القدرات، أولها الثروة الشبابية التي تفتقدها فرنسا العجوز، ولما نطق، قال بأن اللغة الانكليزية في الفصول الأولى ابتدائي مرهون بالمدى المتوسط، أي بعد ست سنوات، بعد ذلك سيتم التفضل علينا والتكرم على الانكليزية، وقبل ذلك، من المقرر إدراجها في أطوار متأخرة من السلك الابتدائي، حيث رأت حكمة الحكومة، أن تُدرج في الطور الرابع، وذلك في انتظار أن تعلن الإمبراطورية الفرنسية موت لغتها دوليا وبشكل رسمي. حينها فقط، سيتم التقرير في شأنها، ولكن في الوقت الحالي، تواجدها لن يزيد عن لغة استئناس، حيث سيتعلم التلميذ أولويات هذه اللغة، بحسب الوصف الذي جاء في المنهاج الجديد والذي بالإمكان تحميله من موقع وزارة التعليم. المهزلة: المهزلة الكبرى في هذا التصور الدراسي، هو القسم الخامس (الاختيارات البداغوجية) المتعلق باللغة الفرنسية، والذي عُنون ب "ملمح مواصفات المتعلم حتى نهاية سلك التعليم الابتدائي" والهادف إلى تحقيق مجموعة من المواصفات العامة من بينها ما يتعلق باللغة الفرنسية، حيث يتوخى تمكين الطالب الابتدائي من التواصل الوظيفي باللغة الفرنسية قراءة وتعبيرا. أما فيما يتعلق باللغة الانكليزية، فان الوضع هنا لا يتجاوز ما وصفه المنهاج بأن يكون التلميذ مستأنسا بالاستعمالات الأولية للغة الانكليزية. إن من وضعوا هذه الاختيارات البداغوجية، ربما كانوا خارج التغطية المحلية، فعلى الرغم من أن النسبة الساحقة من المغاربة تُطالب، أو في أضعف الأحوال، تفضل أن يتعلم أبناءها اللغة الانكليزية للانخراط في الفضاء العالمي الواسع، إلا أن الاختيار البيداغوجي جاء فقط لكي يُخيب كل الآمال، أولا بإدراجه لهذه اللغة الدولية ضمن مناهج القسم الرابع، وحرمان الطالب من حقه في التمكن من لغة التكنولوجيا والبحوث والكتب العلمية والمعرفية بداية من السنة الأولى ابتدائي، وثانيا بتحقيرها وجعلها كمجرد لغة استئناس و"الاستعمالات الأولية" رغم أن هذه اللغة هي التي يُدير العالم بها شؤونه. وعلى الرغم، من مهزلة ترقية اللغة الفرنسية الميتة، إلا أن واضعي هذا المنهاج، لم يفتهم التأكيد على ترسيخ البعد الثقافي لدى التلميذ، من خلال ما وصفوه ب"توسيع دائرة رؤيته للعالم وللحضارة البشرية مع تفتح شخصيته بكل مكوناتها (...) كانسان منسجم مع بيئته ومع العالم" وهو التعبير أو الرؤية، أو على الأقل الملمح، الذي يستحيل أن يتحقق عن طريق لغة ميتة. هذه بإيجاز هي ملامح طفل اليوم، رجل المستقبل، الشاب الذي سينخرط في الفضاء العالمي، بمجرد إنهائه السلك الابتدائي، وذلك من خلال لغة ميتة هي الفرنسية، بدأ أصحابها يهجرونها لصالح لغة الانفتاح الشامل والعالمي، وذلك من أجل غزو العنصر الفرنسي للعالم، على غرار العنصر الصيني والياباني والكوري الجنوبي، وفي الآونة الأخيرة العنصر التركي الذي شرع بدوره مُنطلقا نحو غزو العالم، والرابط المشترك بين هذه البلدان "الغازية" وحتى باقي البلدان المتقدمة، هو استعمال اللغة الانكليزية وإتقانها، وليس بالاعتماد على لغة ميتة أو فاشلة في تحقيق التواصل مع مختلف شعوب العالم. هكذا، وبدل أن يجد هذا الطالب نفسه منفتحا على حضارة العصر الحديث متطلعا إلى حضارة المستقبل، سيجد نفسه منفتحا على حضارة العصرين، الحجري والبرونزي، بواسطة لغة ينتظرها مستقبل قيّم داخل متحف اللوفر في قسم الثقافات المحكية. فهكذا حكموا على طالب الابتدائي، شاب الغد وطالب الجامعة، بأن يظل مرهونا للحيز الفرنكفوني المحدود، سجينا كآبائه، غير قادر على التواصل والتفاعل مع العالم في عصر التواصل الرقمي والتكنولوجيات الحديثة. لا خوف على الفرنسيين، غدا عندما تُحنط لغتهم الفرنسية، فهؤلاء يدرسون الانكليزية في مستويات متقدمة، يساعدهم في تطويرها وعي دولتهم، بأن الحاضر والمستقبل لا مكان فيه للغتهم الميتة، وهم غدا سيكونون على أُهبة الاستعداد لكل طارئ، بما أن حكومتهم ضمنت لهم على المدى المتوسط القدرة على التواصل والتفاعل مع العالم بلغة عالمية. أما الخوف، كل الخوف، فهو على أبناء هذا الشعب المقهور المظلوم، المقموع، المسلوب في أبسط حقوقه، أبناء هذا الشعب الذين أُريد لهم حمل هم لغة لا علاقة لهم بشعبها ولا ببلدها ولا بحضارتها، وعلى حساب ضرب لغتهم الأم والأصلية وإقصاءها من لعب دورها ونزعها من مكانها ظلما، ثم على حساب حقهم الإنساني والدستوري في التمكن من اللغات الأوسع استعمالا في العالم، أي الانكليزية باعتبارها اللغة المصنفة أُولى عالميا، شأنهم في ذلك، شأن أقرانهم الفرنسيين، وذلك، وفي الوضع الحالي الذي يعرف فيه الاقتصاد الفرنسي انكماشا وتزايدا لمعدلات البطالة، وفي ظل حكومة شابة، فان الثابت، هو أن الانكليزية أصبحت للفرنسيين بينما الفرنسية الميتة فقد تُركت للمستعمرات؛ ففي تلك المستعمرات، فقط، يمكن لها أن تتزود بالقدر الذي يكفيها من "السيروم" الذي يؤخر وفاتها، بسبب أنها داخل بلدها المنفتح لم تعد قادرة على المقاومة لأجل الحياة، بينما في المستعمرات المنغلقة والمستبدة والمهيمن على قراراتها السيادية، يُمكن خرق القانون وتحقير الأحكام القضائية بسهولة، ما يضمن لها مقاومة هي في حاجة لها، فالدولة الفرنسية وبواسطة خدامها الأوفياء في هذه المستعمرات واللوبيات الاقتصادية والاجتماعية و"الثقافية" لن يتركوها تقاوم لوحدها، لأن العبد دائما يساعد سيده ما إن دعت الظروف لذلك. تحدث العاهل المغربي في خطابه ل"ثورة الملك والشعب" مستعملا صيغة الجمع، عن تدريس اللغات الأجنبية، في جميع مستويات التعليم. وعندما نتحدث عن الخطاب الرسمي لرئيس الدولة، فتلقائيا، نتوجه إلى الدستور، حيث يُبنى نص الخطاب وفق مضمون تلك الفصول، وفي هذا الشأن، يُطرح أمامنا الفصل 5 المعني باللغات والذي يقول بأن الدولة تعمل على تعليم "وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم، باعتبارها وسائل التواصل والانخراط والتفاعل مع مجتمع المعرفة والانفتاح على مختلف الثقافات وعلى حضارة العصر". وعلى ضوء هذا الفصل، نقارن مدى دستورية تعامل الحكومة مع المنهاج الدراسي الجديد؛ فهل ينطبق هذا الفصل على إدراج اللغة الفرنسية في القسم الأول وتهميش اللغة الانكليزية، ومن لها الأولوية في أن تتخذ وضع اللغة الأجنبية الأولى في المدرسة، وقد كان على الأقل وكأضعف الإيمان، إدراج اللغتان معا، في نفس المستوى، فعندما يتحدث الدستور عن "اللغات الأكثر تداولا في العالم" ويتحدث أيضا عن الانفتاح على "حضارة العصر" فبالتأكيد ليس المعني هنا هو اللغة الفرنسية، ولدا أود أن أوجه الحكومة إلى إلزامية الاستعانة بتقارير المؤسسات الدولية المعنية بهذا الشأن، لتحديد، بطريقة علمية معززة بالدلائل، وضع اللغات عالميا وتراتبيتها ومدى انتشارها، بدلا من الاعتماد على الظن والارتجالية والانصياع لضغوط "أصدقاء فرنسا". وهنا أود من الحكومة أن توجهنا إلى الإطار العلمي والمهني الذي استندت عليه في تحديد اختيارها في جعل الفرنسية في مرتبة واحدة مع اللغة العربية الرسمية في المدرسة، فحسب كتاب "حقائق العالم" الصادر عن الاستخبارات الأميركية ومؤسسات ك"انكارتا" و"اثنولوج" إضافة إلى العديد من الإحصاءات الأخرى التي أجمعت في تقريرها على اختيار عشرة لغات لتصنفها الأولى من حيث الانتشار وعدد المتحدثين على مستوى العالم، فقد جاءت اللغة الفرنسية في الترتيب التاسع أي ما قبل الأخير، من حيث الانتشار في العالم بنسبة 3.5 هو عدد المتحدثين بها من مجموع سكان العالم، فيما احتلت العربية المركز الرابع بنسبة 6.6 من سكان العالم يتحدثون بها، بينما تربعت الانكليزية على العرش كلغة أولى في العالم. هنا نود أن نساءل الحكومة، بما أننا أولا مواطنون شركاء في هذا الوطن، وفاعلين مدنيين يحق لنا دستوريا إبداء الرأي، عن المعايير العلمية التي اعتمدتها في ترقية الفرنسية لتنافس اللغة الوطنية، وما مدى أخذها برأي المختصين والمهنيين وأصحاب الشأن المعنيين، أي طلبة السلك الابتدائي، فهؤلاء أيضا لديهم الحق في التقرير في اللغة التي يميلون إليها، والتي يرى فيها طفل العصر المرتبط بتكنلوجيا الاتصال، لغته المفضلة، وقد كان بالإمكان توزيع جُذاذات على المدرسين تتضمن أسئلة استبيانية يوجهها الملقن لتلامذته في هذا الخصوص. إن مصلحة المغرب ومستقبل أطفاله، هي صاحبة الأولوية، وليس مصلحة فرنسا ووكلائها في بلدنا المستقل صاحب السيادة الترابية واللغوية المطلقة، هؤلاء الذين يُدرسون أبناءهم في مدارس وأكاديميات أميركا وبريطانيا وكندا، ويفرضون على أبناء المغاربة تعلم لغة ميتة لا شأن دولي لها، لا لشيء فقط إرضاء للدولة التي تجمعهم بها مصالح مالية ومعاملاتية في مجال "البزنس" أو "التبزنيس". يا سعد خذ فرنسيتك الميتة وعلمها لأبنائك، وخلي أبناءنا يتعلمون لغة تنفعهم في مستقبلهم وتنفع بلدهم ووطنهم..