وجدت حكومة رئيس الوزراء المنتمي لأبرز حزب تبنى الدفاع عن الهوية العربية للمغرب ولغته العربية بشكل كبير، مرة أخرى نفسها في موقف مُحرج، عندما طرح أعضاء فريق الأصالة والمعاصرة ذو التوجه الليبرالي، موضوع استمرار هيمنة اللغة الفرنسية على مجالات عدة في الحياة الإدارية والاجتماعية وان كان بدرجة أقل.. طرح الحزب اللدود، قبل أسابيع، لموضوع طالما اعتبر من أهم الأوراق التي استعملها الحزب الإسلامي طوال سنوات ضد الحكومات السابقة، بمثابة وضع الأصبع على الجرح الأكثر إيلاما لدى إخوان الدكتور سعد الدين العثماني، خاصة أن غالبية منظري الحزب وقيادييه غير المستوزرين لازالوا يدافعون عن قضية التعريب بنفس الحماسة؛ فإذا وجد المغاربة بعض الأعذار لتراجع الحزب عن جملة من وعوده السابقة في مجالات التوظيف وتحسين المعيشة (…) بمبررات الاكراهات المالية والتقلبات الاقتصادية الدولية (…) فانه في المقابل لن يجد ما يُبرر به تضعضعه في مواجهة هذا الخرق اللغوي الأجنبي غير الدستوري لهويتنا ولحيانا اليومية، بشكل لا يُمكن لأي حكومة في العالم المحترم قبوله، خاصة وأن الحكومة الحالية والتي قبلها، جاءتا في ظل دستور رفع من شأن العربية بأن نقلها من التصدير الدستوري إلى صلب النص الاجتماعي، كما أنها محظوظة عن سواها، بانخراط القضاء في المعركة بانتصاره عبر ثلاث أحكام تاريخية متتالية لصالح الغالبية العظمى الراغبة في التعريب، على الرغم من عدم صدور قانون لتمكين اللغة العربية بعد. المؤكد أن تمادي اللغة الأجنبية، أو لنقل التيار الفرانكفوني الرجعي، بدفاعه غير المشروع على استمرار تسلط هذه اللغة، والذي لايزال يشده الحنين إلى زمن الإمبراطورية الفرنسية واستعمارها المُذل، غير متقبل لفكرة تغيُّر الزمن ومعه تغيُّر الأهواء، وأن جيل اليوم في عمومه، أقل ميلا للغة الفرنسية التي شاخت وذبل وهجها ولم تعد تقدم ذلك الإغراء الذي كانت تقدمه قبل عقود، وقد تعاظمت الرغبة في التحول إلى اللغة الانكليزية – ولنا في هذا الباب لبنان نموذجا – وقد صار التعبير عنها يشغل حيّزا هاما على مواقع التواصل، كما أن حملة شبابية سابقة في هذا الشأن، كانت قد حققت نجاحا شعبيا هاما – على الأقل افتراضيا- تعاطت معها العديد من وسائل الإعلام العربية والأجنبية، باستثناء قنواتنا طبعا.. إن ترديد أغنية "لغة الانفتاح" التي طالما واجه بها مقلدوا فرنسا، كل من طالب باحترام اللغة العربية، اليوم، هي مجرد أغنية فولكلورية من التراث، فآخر المؤشرات الدولية دحضت أكذوبة "لغة الانفتاح" التي ألفها أتباع الإيديولوجية الفرانكفونية المعادية لعروبة المغرب، وذلك بأن أنزلتها هذه المؤشرات إلى الحضيض بتصنيفها في الرتب الأخيرة من حيث مساحة الانتشار، بينما صنفت العربية في رتبة جد مشرفة، كلغة انفتاح أكثر بكثير من لغة فرنسا، كما أن الواقع التكنولوجي والثورة المعلوماتية نقّصت كثيرا من قيمتها وبدل أن يستفيد منها المستخدم في هذا المجال على نطاق واسع، أصبحت في زمننا هذا بحد ذاتها اشكالية وعقبة تقف في وجه انفتاح شامل وأوسع، وذلك بمنعها لعموم المغاربة من الاستفادة من اللغة الانكليزية بالشكل الذي يجب أن يكون عليه الحال. على الرغم من أن الجميع متفق على أن هذه اللغة لحد اليوم هي لغة أجنبية، وبالتالي فان التعامل معها يجب أن يكون وفق مصلحة المغاربة، غير أن هذا الإصرار الرسمي غير المبرر يفتح باب الشكوك على مصراعيه، إذ أن مصلحة المغاربة والمغرب تلزم بالتحول نحو الانكليزية وليس بالضرورة بشكل تدريجي كما لمح رئيس الوزراء، كون هذا الأمر تأخر أكثر من اللازم. رئيس الحكومة، وفي محاولة يائسة لدر الرماد في الأعين ولإسكات المنتقدين، أعلن عن إدراج الانكليزية في فصول الصف الرابع ابتدائي (خضر فوق الوجبة).. إجراء لا يمكن إلا أن نسخر منه، فكيف لفرنسا التي نسعى جاهدين إلى إرضائها كما لو كانت ولي أمرنا أو وصيا علينا، بحد ذاتها تُدرس هذه اللغة كلغة أجنبية أولى إجبارية في تعليمها، وذلك بغية ضمان انفتاح تام، ومن تم يعمل أولياؤنا الفرنسيون على ترجمة كل ما يُترجم من كتب علمية وبحوث ودراسات ومناهج تدريب فني وغيره، وكذا دبلجة الأفلام الأميركية، ومن تم بيعها بأثمان تفوق سعرها الأصلي، لمستعمراتها التي ترفض الانفصال عنها.. إن كلام رئيس الحكومة عن إدراج الفرنسية في الأول ابتدائي كتجربة على الأمد المتوسط، كلام مرفوض قطعا. فالحديث عن الأمد المتوسط كان يفترض أن يُناقش خلال سبعينات القرن الماضي، أما اليوم فقد جربنا هذه اللغة ضعفي الأمد المطول، وكانت النتيجة مدمرة على أكثر من صعيد، فضلا عن الصراع اللغوي والهوياتي، بل حتى السياسي الذي افتعلته، أو الأصح افتعلته الأجهزة الفرنسية المكلفة. وبهذا وجدنا أنفسنا ندفع ضريبة ثقيلة جدا. هنالك شبه إجماع سياسي وأكاديمي، وحتى على مستوى الفاعلين ونشطاء المجتمع، على حتمية إدراج الانكليزية لغة أولى أجنبية، باستثناء قلة من أصحاب الرأسمال التقليديين، ممن لا تهمهم سوى تجارتهم مع فرنسا وعلاقاتهم التقليدية معها، وكذلك خشيتهم من الانفتاح الذي سيقوي المنافسة ضدهم. ما يتردد على لسان الكثير من المغاربة، أن الحكومة فرطت في كثير من حقوقهم، غير أن إقدام رئيس الوزراء على الخطوة السالفة الذكر، بما تُشكله من استفزاز بسبب هذا الحرص المبالغ فيه، على مصالح الفرنسيين ولو على حساب مصلحتنا كمغاربة، فيها إجهاز على أهم حق منحه الدستور، وهو الانفتاح على كافة العالم، فلغة الانفتاح بكل تأكيد لن تكون هي الفرنسية التي لا تزيد عن كونها مجرد وسيلة للاطلاع على الأدب والإعلام الفرنسي. إن الإصرار على حماية المصالح اللغوية لدولة أجنبية بما يضمنه لها من امتيازات تجارية وسياسية بما فيه من رهن للمصلحة العليا للوطن وانغلاق على الحيز الفرنسي المحدود، هو إلى جانب ما سبق ذكره يشكل إجهازا على مستقبل أبناء المغاربة وضربا لحقهم في التمكن من لغة العالم تحت ضغط حسابات سياسوية ضيقة. فمهما بلغ انبطاحنا وخضوعنا المذل لجمهورية فرنسا، غير أن هذا الخنوع، فأقل الإيمان يجب على الأقل، أن تكون له حدود، وأن نحافظ لأنفسنا على شيء من الخجل والحياء وبعض من الكرامة، ونحن نرى إعلامنا المرئي والإذاعي الحكومي لا هم له سوى إرضاء جمهور وهمي لا وجود له الا في خيالاتهم بلغة فرنسية أجنبية، في برامج يُمولها المغاربة من جيوبهم، ومازلنا بعد عقود من الاستقلال نتوصل بمراسلات من مؤسسات مصرفية أو ضرائبية أو غيرها بلغة الشعب الفرنسي، وهكذا انقلبت الآية وأصبح الأجنبي هي المواطن والمغربي هو المقيم، الى درجة أن الفرنسي عندما يزور المغرب كأنه في جزء من إمبراطوريته، لأنه ليس في حاجة لتعلم لغتنا بل نحن أصحاب الوطن الذين في حاجة لتعلم لغته كي نندمج في مجتمعنا. وعليه، فعلى معالي رئيس الوزراء، أن يتذكر أيضا أن لصبر المغاربة حدود، ولعل ما نسمعه من دعوات، وان كانت محدودة، تهدد بمقاطعة المنتجات الفرنسية، لهو دليل على حالة عدم الرضا على استمرار فرنسا في موقع ال"ماما" فقد منحنا هذه الدولة صفقات بملايين الدولارات خارج طلبات العروض والمنافسة؛ ولعل أبرزها صفقة القطار فائق السرعة، الفاشلة، غير أنه ما يجب على مسؤولي المملكة أن يدركوه جيدا، هو أن ذهنية المغربي تغيرت في عصر "المقاطعات الشعبية" ولم تعد تقبل بفرض الأمر الواقع عليها، وأن مستقبل أبناء المغاربة ليس صفقة نُرضي بها تلك الجمهورية البعيدة، وأن لهذا الشعب حق دستوري في انفتاح حقيقي على العالم من خلال حقه في اختيار أفضل اللغات في الكون، وليس بأن يظل حبيس لغة فرنسية انتهت صلاحيتها الدولية. كما من حقه أن يُخاطب بلغته في كل مكان يلجه وأن تُكتب بها وثائقه كيفا كانت، حتى أدلة الطعام في المطاعم والمقاهي، التي تقبض حساب الخدمة بالدرهم المغربي في المقابل ترفض الاعتراف بلغة المغرب الأولى. وبالرجوع الى الفصل (5) من الدستور، فان الدولة مطالبة بالعمل على "تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم، باعتبارها وسائل للتواصل، والانخراط والتفاعل مع مجتمع المعرفة، والانفتاح على مختلف الثقافات، وعلى حضارة العصر"، ففي نظركم هل هذا الكلام الدستوري ينطبق على لغة فرنسا، أم أنه يحمل توجيها إلى توظيف اللغات الأولى عالميا، ولنا أن نُطالع التقارير الدولية للتحقق من خلالها حول مكانة اللغات عالميا، على الأقل اللغات الست المعترف بها في الأممالمتحدة. في الختام، نقول أن المغرب الذي اختار الانفتاح على أفريقيا، مطالب بتدريس كفاءات المستقبل لغة البلدان الأفريقية الأكثر غنا والأقوى اقتصادا، قبل الاهتمام بلغة الجزء الأفريقي المفقر والتابع اقتصاديا وسياسيا لباريس التي لا تسمح له بأي نهضة حقيقية. *المدير التنفيذي ل"مركز الحقوق الاجتماعية والاستراتيجيات الإنمائية"