يتعلق الأمر بعلاقة الخطاب الديني الأخلاقي بسلوكياتنا اليومية ومعاملاتنا مع أنفسنا ومع الآخرين، كذلك عن استحضارنا لهذا الخطاب في كل أقوالنا وأفعالنا وفي كل أحوالنا وفي جميع المناسبات. ربما لن أبالغ إن قلت أن بإمكاننا إذا قمنا بجولة في إحدى المدن الاسلامية وعملنا على جمع الآيات القرآنية الموزعة بين جدران البيوت والإدارات والمكاتب والمدارس وزجاجات السيارات والشاحنات وكذا على رنات الهواتف المحمولة، الحصول على ما مجموعه ما بين دفتي الكتاب الكريم.
في الوقت الذي تُكتب وتُقرأ فيه هذه الآيات والأحاديث، هل كتابها أو الآمرين بكتابتها أو قراؤها أو المتحدثين بها يعون بمضامينها أم لا ؟ وهل يعلمون أن محتوى هذه الخطابات موجه بالدرجة الأولى إليهم قبل غيرهم أم يعتبرون الأمر لا يعنيهم في شيء وبالتالي المقصود هم الآخرون من دونهم ؟ بل ربما يحسبون أنفسهم هم الآمرون والواعظون وهم فوق الجميع. لا أعمم حتى لا أصنف مع الجاهلين.
وأنت تدخل صالون إحدى البيوت كضيف، تعترضك لوحة مكتوب عليها بالبنط العريض المذهب الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». هل لصاحب البيت من علاقة بهذه الآية وبمعناها ؟
في السيارة الخاصة على "المرآة العاكسة " سبيحة معلقة أو كتاب قرآن من الحجم الصغير أو لوحة صغيرة منقوش عليها "آية الكرسي" أو "دعاء سفر". وعلى الزجاجة الخلفية مكتوب عبارات من قبيل: "ما شاء الله" أو "هذا من فضل ربي" أو "حسبي الله ونعم الوكيل "أو "توكلت على الله" أو"لا تنس ذكر الله". أو ترى على الخلف "كتاب القرآن" موضوع بعناية وجنبه سجادة. ولكل واحد منا أن يستحضر السير على الطرق ومدى احترامنا لقانون السير وعدد المخالفات وحوادث السير عندنا.
قد تلتجئ إلى أحد المحامين وقس عليه القضاة، من أجل قضية ما، وأول ما يعترضك على الجدار الأمامي وفوق مكتب الأستاذ، لوحة معلقة مكتوب عليها الآية الكريمة: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» لابد أنكم قد سمعتم عن قصص كثيرة في النصب والاحتيال أبطالها محامون وقضاة، إن لم تكونوا أنتم من بعض ضحاياهم.
في متاجر بعض التجار لوحة تظهر أمامك لدرجة أنها هي من تراك ولست أنت من يراها. مكتوبة بالبنط العريض وبخط واضح "هذا من فضل ربي "، وصاحب المتجر لا يتوانى في استعمال كل أشكال التحايل
والكذب والقسم والمجاملة الزائدة عن اللزوم حتى تتحول إلى نفاق لا يحتمل، كل ذلك من أجل تمرير زيادات غير مبررة وغير معقولة في أسعار غير محددة ولا معلنة أصلا وسلفا. ولسان حاله يقول "الله اجعل الغفلة بين البائع والشاري". أين فضل الله في هذا ؟
قد تقصد إحدى دكاكين الحرفيين وأول ما يلتقطه بصرك لوحة بالية معلقة على الجدار الأمامي مكتوب عليها "رحم الله من عمل عملا فأتقنه" وبعد تعاملك مع هذا الحرفي تتوصل إلى نتيجة أن صاحبك هذا لا يعرف أي معنى للعمل ولا للإتقان ولا حتى للرحمة. مما يجعلك تنتقل إلى حرفي آخر بعد أن ضيعت من وقتك ومن مالك ربما الكثير وأخذت نصيبك من القلق.
وأنت راكب سيارة أجرة يسترعي انتباهك تعبير "من غشنا ليس منا " مكتوب على ورقة أو على خشبة موجه نحوك حين تكون جالسا في الكرسي الأمامي، لكن دون أن يستحي السائق يعمل بجميع الطرق الملتوية لكي يسلبك بعض الدريهمات الزائدة عن مستحقاته. أو كما لاحظ بعض الزبناء، إذ تنطلق سيارة الأجرة في الاتجاه المطلوب، فبدل من أن يشغل السائق العداد فإنه يشغل المذياع ويسمعك بعض آيات من الذكر الحكيم.
قد تطلب أحد الأشخاص على هاتفه المحمول، مع الرنين تسمع ما تيسر من الذكر الحكيم أو أحاديث نبوية أو مواعظ أو أدعية أو حتى أغاني دينية. من مضمون ما سمعت تستجلي دعوة ما إلى الأخلاق والقيم الحسنة، لكن صاحب الهاتف قد لا يتوانى في الكذب وعدم الصدق أو التمويه في كلامه بل حتى التحايل.
وأنت تتجول بأحد الأسواق: ضجيج لا متناهي، اكتظاظ وازدحام مكتمل، مرغم أنت لا مخير على سماع كل أنواع الموسيقى في نفس اللحظة وفي نفس المكان، كما أنت مرغم على سماع أشكال وخليط من القراءات والتجويد القرآني. ماذا لو قلنا إن: "النظام من الإيمان " قياسا على الحديث النبوي الشريف "النظافة من الإيمان"؟
مقاهي ومتاجر استحوذت على الأرصفة وحولت شوارع المدينة إلى أزقة، مما يدفع بالمارة ليتراموا ويتزاحموا وسط الطرق المعبدة المخصصة للسيارات، هكذا يجتازون الطريق في كل مكان دون مراعاة أمكنة وممرات الراجلين إن وجدت. ومن المعلوم أن أصحاب هذه المحلات التجارية حجوا إلى بيت الله الحرام ربما للمرة الثالثة على التوالي، دون أن يعرف الاستحياء طريقه إلى ضمائرهم إن امتلكوها ؟.
مع كل آذان للصلاة عدا صلاة الصبح، تتحول فضاءات بعض المساجد إلى أسواق وضجيج وعراك وأوساخ متناثرة.وداخل المسجد قد تصلي وأنت غير خاشع بل خائف حتى لا تعود إلى منزلك حافي القدمين، وعند الخروج الكل يتسابق إلى الأبواب في غياب لتسامح ولنظام طال انتظاره، مما يتسبب في اكتظاظ وازدحام مفرط. لا أدري إن فهمنا فعلا معنى" المسجد بيت الله " ؟
في ليالي فصل الصيف تكثر حفلات الزفاف التي لا تخلو من ضجيج وصخب مترامي الأطراف مسترسل حتى الصبح دون مراعاة للآخرين وأحوالهم. ولتقرؤوا ما قال نبينا عليه السلام وبما أوصانا: «ما زال جبريل يُوصيني بالجار حتى ظنَنْتُ أنه سيورِّثه»: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُؤذِ جاره». الكلام بعد هذا النور ثرثرة ومضيعة للوقت.
راكب على سيارة قد تكون بالية أو فاخرة، يفتح الزجاجة الجانبية ليتكرم على المارة بعلبة سجائر فارغة، أو قارورة مشروب ما، أو أعقاب سجائر، أو على الأقل بصق. فالتبول، التنخيم، البصق، تفريغ محتوى الأنف المثقل، التدخين ثم القذف بأعقاب السجائر في كل الاتجاهات وفي كل الأمكنة حتى دون إشعار. أمور متعود عليها ولا تشكل أي إحساس بذنب أو حرج أو استحضار لضمير قد طال غيابه. ومع ذلك حين تنبه أحد ما اقترف هذه الأفعال المشينة يسبقك إلى القول: "النظافة من الإيمان".
مشهد لشاب أو حتى لكهل يعاكس ويتحرش ببنت أو بامرأة وسط الشارع العمومي، بعد أن أدى صلاة العصر وفي انتظار آذان صلاة المغرب. فلا حرج عليه، فالضمير غائب، والذكورة والفحولة هي سيدة الموقف. لا أدري إن كانت صلاتنا فعلا تنهانا عن الفحشاء والمنكر أو حتى دون ذلك؟
على الشارع العمومي بعض المقاهي ذات الأرصفة العريضة والمواقع "الاستراتيجية"، يثير انتباهك نخبة من الشباب وحتى الكهول همهم الأول الحصول على الأمكنة ذات "بعد النظر" من أجل ملاحقة الأجساد الأنثوية (عيون تتحول إلى سكانيرات وتشتغل بالأشعة إكس). «قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَع» الخطاب غير موجه لهم والآية لا تعنيهم في شيء وبالتالي ليس هناك أي مشترك في القيم التي تطلبونها.
في يوم الجمعة وأنت تتجه إلى إحدى الإدارات العمومية مع الصباح، تنتظر الموظف المسؤول، يأتيك بعد نصف ساعة أو حتى ساعة من التأخير عن الوقت المحدد إداريا، وهو مكسي بزي أبيض يعلن ويفصح عن فائض من "الإيمان والتقوى والورع"، لكن قبل أن ينتهي الوقت المحدد للشغل ينسحب تاركا مصالح الناس دون أن تقضى، وهو متوجه نحو المسجد كي يفوز بالصفوف الأمامية قرب المحراب ليستمع إلى الامام وهو يتحدث في خطبته عن موضوع "الإخلاص في العمل" دون أن يعنيه الأمر في شيء، فالضمير غير مشغل.
على جدران إحدى المؤسسات، خصوصا المدارس تسترعي بصرك عبارة "النظافة من الإيمان" لكن من خلال وضع وحالة المؤسسة يبدو أن أصحابها لا يعرفون معنى النظافة ولا معنى الإيمان وهذا ما تكشف عنه الأوساخ والأزبال المترامية في كل الأمكنة دون استثناء.
هناك سلطة اللامعنى والمألوف والمتعود عليه والجهل، كما أن المال والجشع والطمع امتدوا حتى إلى المظاهر والرموز الدينية والأخلاقية فميعوها ونخروها من الداخل وهكذا تم إفراغها من محتواها القيمي والأخلاقي ومن مضمونها وجوهرها الإنساني وأصبحت بلا روح وبلا معنى.
الظاهر أن الله خرج من القلوب (لا أعمم) ووزع وألصق على الأوراق واللوحات والجدران والزجاجات كما عبأ في رنات الهواتف النقالة.