يستدعي فهم واستكناه الأعراف السياسية بالمغرب العودة إلى المنابث- بالمعنى التاريخي-، وهو المسلك القمين باستيعاب منافذ اللعبة السياسية، التي يمارسها النظام في علاقته بمن يرضى مشاركتهم الحكم. وبإيجاز شديد، أمكن التصريح أن القاعدة في المشاركة السياسية للحكم وتقاسم منافعه بين المخزن وأدوات إنفاذه، كان مؤدلجا بالدين انطلاقا من الزاوية وصولا إلى الأحزاب( للإستزادة يراجع سفر بهذا العنوان، الاسلام والسياسة في المغرب، الدارالبيضاء، 2011). هذا الكلام بحاجة إلى مزيد توضيح، لكن سنكتفي ههنا بالإضمار اعتمادا على منهجية الاسقاط بالتراجع. إن القول بأن إشراك السلطة الزمنية للاسلام السياسي في الحكم أمر جديد لم يحصل من قبل هو قول قاصر، بالنظر إلى أن الدولة بنيت أساسا على الدعوة الدينية المعززة بالعصبية القبلية أو بالشرف، وهذا المرتكز الأخير هو الذي له علاقة وطيدة بالحكم السياسي اعتبارا لأن العقلية المغربية قبلت بيسر التماهي مع هذا التوجه، ولم تجهد في تجريب الأنماط الأخرى، فترسخ لدى الرعية أن الحاكم بالشرف منقذ ولدى هذا الأخير أنه أب للجميع. الحقيقة إذن أن عبارة الاسلام السياسي مبتذلة وفيها الكثير من التمحل.
من الناحية التاريخية دائما، ينبغي الوعي التام بأن الاسلام السياسي، مع أنه لم يقطع تماما مع الخطاب الأصل، فقد طوره لكي يكون طرفا مقبولا به في المشاركة، فهذا الخطاب لم يكن إلا نفسه الذي ساد في عهد الزوايا والرباطات التي كانت تستغل ضعف الحكم المركزي للاستفراد بالشأن العام والارتداد بالجماعات البشرية نحو أوليتها في التربية والثقافة والأذواق وخلاف ذلك. غير أن الاسلام السياسي قد برع في تأويل السياقات الجديدة لفائدته، فمن ناحية، له نص يستند إليه في مخاطبته لأتباعه، ومن أخرى هو متيقن أن ذلك النص (البرنامج السياسي) لن يفيده في شيء لما يتسلم زمام الحكم، يتفق الطرفان على هذه الأشراط فيتواصل الوئام بين العاهل والحزب، وإذا انفرط العقد بينهما فمن دواعي أخرى، أي حين يصل الحزب إلى مرحلة الاقتيات من الرصيد.
هذه هي الوضعية العامة للحزب المعروف عند العوام أنه الحاكم، أي حزب العدالة والتنمية، الحزب الذي جدد للمخزن آليات الحكم والاستقواء بعد أن كان على مشارف القبول بما لم يكن ممكنا، وغدت أطراف هذا الحزب بعد أن نجحت في مراكمة الرصيد الرمزي والمادي تكون جزء معتبرا من النخبة السياسية التي
من سماتها العامة الانبطاح أمام الحاكم عند أول إغراء (راجع بهذا الصدد الملاحظات القيمة التي دونها واتربوري في كتابه عن أمير المؤمنين).
لسنا هنا بصدد متابعة المتغيرات الحاصلة قبلا وبعدا، لما عقد للحزب بالحكم المشروط، يهمنا فقط إيراد حالات خاصة مطابقة للوضع الذي وصفناه أعلاه، بهذا الشأن يمكن القول أن بني ملال في المركز والأحواز اعتبرت من القلاع التي جذر فيها الحزب لوجوده ولو بشكل متأخر، وهذه الوضعية في الحقيقة بحاجة إلى دراسة خاصة كونها اعتبرت لأمد طويل مركز الأعيان الذين شكلوا إقطاعات راكدة (حزب الحركة الشعبية) زجت بالأغلبية في هوة المعدمين. سنركز فقط، وباختصار، على مسألتي العقار والتعليم، القطاعين اللذين عرفا تغلغل الحزب من خلالهما في أوساط الأتباع سيما الموصوفون بالفئة الوسطى بالمعنى الاقتصادي وليس بالمعنى الثقافي.
ففي ميدان العقار استطاع الحزب المحلي النفاذ إلى أصل الحاجة ووعاه قبل غيره، فرمى بكل ثقله صوب هذا القطاع، فكانت الاستفادة من وجهين، أولا ضمن لنفسه مزيدا من الموالين والأتباع سيما من الفئة الاجتماعية المسماة "وسطى"، فكل من التحق بالدكاكين العقارية المحتضنة لمقرات "الوداديات" المنتشرة في ربوع المدينة يتلقى برنامج الدفع بالأقساط مرفقا بكثير من الوعظ السياسي المغلف بقناع الدين، هذه الوداديات تسعى بدورها إلى إطالة أمد تبعية الأفراد من خلال تمديد الآجال المصرح بها مهدا، ثانيا يستطيع الحزب المحلي من خلال هذه الاجراءات تكريس وزنه عند الزعيم الأكبر في المركز ويمده بالدعم المادي والرمزي. لا شك أن هذا المعطى يسهم في توسيع دائرة الكتلة الناخبة الموالية للزعماء المحليين الذين تولوا المناصب وأعادوا توليتها ويسعون إلى توريثها لأعقابهم من بعدهم. ليس هذا فحسب، إذا كانت هذه الوضعية الموصوفة تنعكس بشكل مباشر على الحزب جماعة وتنظيما، فإن الأفراد بدورهم لا يتوانون عن السعي الحثيث وراء الاستفادة بطرق ملتوية وماكرة، فإلى جانب استطاعة البعض تشييد مساكن فاخرة لن يتمكنوا من تبريرها لو طولبوا بذلك، هناك آخرون خرقوا كل قوانين التعمير والبناء، فحازوا مساحات ليست في ملكهم واقتطعوها لأنفسهم من أملاك الخواص ومن الممتلكات العامة، وفي المقال المقبل أفرده لحالة أتوفر بشأنها عما لها وما عليها، وسأزيل الستار عما وراء ملامح وخطاب صاحبها.
ميدان التعليم هو الآخر ميدان صالت فيه زمرة حزب رئيس الحكومة وجالت، وآليات اشتغالها في هذا الجانب توازي مثلما وصفنا أعلاه وتماثل أدوات الاشتغال في العمل السياسي والدعوي، مجال التربية والتعليم هو الذي يبرز بجلاء التباعد الكبير بين الخطاب الديني والممارسة العملية في الواقع، حيث
تستقطب المدارس الخصوصية التابعة لها عشرات المعلمين والأساتذة الذين تيسر لهم كل سبل خرق القوانين الجاري بها العمل توازيا مع العمل الرسمي، فأغلبهم لا يستكملون الحصص المقررة في التعليم المدرسي العمومي، ويتحايلون بشتى الوسائل لتفييض ساعات يستثمرونها في المقرات الاحتياطية، زد على هذا أن العديد منهم يعتبر أن العمل في التعليم العمومي ليس إلا وقتا ثالثا، هذه الآلية بدورها تمكن من تحصيل أصوات مهمة بفعل الدعاية التي يمارسها هؤلاء، وهي بالأصل من شروط القبول والانتماء، زد على ذلك أن الحزب مد أذرعه في التعليم العمومي عبر نقابات لا تغير من خطابها إلا لماما، على الرغم مما يطالها من إجراءات تمس الجميع، على أنهم يستثنون تحصيلا بفعل تعويضات تكسبهم الجاه والمكانة الرمزية.