إن جمود العقل معناه جمود نواتجه، بما فيها القوالب و"البراديغمات" القيمية التي يصنعها المجتمع، ويمررها لأفراده عبر التنشئة الاجتماعية، ومع الانفتاح اللامشروط الذي باتت تعيشه المجتمعات، بدأت تظهر تصدعات قيمية تنبئ بأزمة قيم ملامحها لاحت في الأفق منذ مدة... طبيعي أن تتغير القيم الأخلاقية لأي مجتمع، فهي في نهاية المطاف قيم نسبية لها ارتباط بثقافة الفرد، وثقافة المجتمع، وثقافة الأجيال...، والقيم شأنها شأن أي منتوج عقلي انساني، ((أقول عقليا وليس منطقيا، لأن هناك كثيرا من القيم التي أسرت وجودنا ولوثت حياتنا، وسيجت حرياتنا وهي بعيدة عن المنطق، لكن مع ذلك تبقى القيم الأخلاقية المجتمعية نتاج عقلي، لأنها نتاج بشري)) أقول هذه القيم محتاجة لأن تتغير، لكن كيف لهذه القيم أن تتغير في ظل جمود العقل وانحباسه فيما هو لاهوتي محظ؟ فالغريب أن العقل عندنا لا تتفتق عبقريته التبريرية إلا داخل السراديب الدينية، وفي غيرها لا نجد له أثر، خير دليل سيادة نمط التفكير الخرافي على جزء كبير من حياتنا الفكرية الجماعية، كما أن حياتنا التواصلية والسياسية تغيب عنها العلمية وتحضر الترهات التي كانت سائدة منذ مئات السنين، حتى أننا لا نبدي استغرابا لكثير من القضايا التي نقلها لنا الإرث الحضاري ولا نجعلها محط مساءلة، فهي تساير جمودية عقلنا، علما أن العقل بدوره متغير ومن يؤمن بثباته فإيمانه غير موضوعي بل غير بريء...
لقد كان العقل مع رونيه ديكارت وباروخ اسبينوزا يتسم بكونه عقلا يقينيا مطلقا، لكن النقد في لحظته الكانطية رسم لهذا العقل حدودا لا تتجاوز حدود البحث في المعرفة والاخلاق، ف"نبي الفلاسفة" كانط الذي حمل تعاليم فلسفيه شبيهة بتعاليم الانبياء بدت فلسفته غارقة في اليوتوبيا رغم غلبة الطابع الانساني والكوني عليها، أما النقد في صيغته النيتشوية فقد كان نقدا تقويضيا سخر فيه من الوعي باعتباره أسوء حلقة في الوجود الانساني، بل لقد سخر من كل ما يكتسي طابعا مطلقا...
جوهر الكلام اذن: لا وجود لقيمة ثابتة، كل شيء مصيره التغيير، فهو الحتمية التي تحكم الكون فكرا وامتدادا، والتغيير لابد ان يراعي وحدة وثبات الهوية الانسانية وحدها وتعدد وتغير ما عداها.