أزمة القيم هي ما نعيشها اليوم في مختلف القطاعات أدت إلى فقدان الثقة وفك الروابط وخوف الإنسان من ظله. أزمة القيم هي التي جعلت البائع يغش في سلعته وجعلت الغش في الإمتحانات المدرسية أمرا مشروعا، وجعلت العلاقات الإنسانية مجالا للنصب، الإحتيال، العنف ،الإغتصاب ،الظلم والأنانية... ولكل تصدع خلقي داخل المجتمع. لا شك أن القيم والأخلاق هي ما يحدد السلوك الإنساني ويقيمه باعتبارها مرجعا من خلاله نحكم على الأفعال إما بالإستحسان أو الإستهجان.و إن كان مرجعا خارج الذات ولكن بفعل التربية يصبح داخلها ويوجهها بشكل اجتماعي مقبول. الملاحظ اليوم القيم أصبحت مجالا للكلام والنفاق الإجتماعي، فهي حبيسة اللغة دون أن يتخذ منها معيارا للسلوك و المواقف، فنقول دائما ما لا نفعله لنعيش مفارقات وجودية بين ماهو كائن وما ينبغي أن يكون. الواقع الإجتماعي اليوم عند التأمل عار ومكشوف جسده بشكل مخل للأدب، واقع يندى له الجبين عند مقارنتنا بين ما كان وما نحن عليه. اللغة اليوم استعمال بعيد عن سننها و أبجدياتها، مفاهيم جديدة ودخيلة، نجدها تارة عربية مفرنسة وتارة أخرى فرنسية معربة، كأن اللغة لم تعد تعبر عن الهوية المجتمعية أو أنها هوية أخرى، إن استعملنا التحليل السيكولوجي للغات فإنها تعبر عن شخصية ترفض الإنتماء . لغة الشارع اليوم بكل وقاحته تدخل بيوتنا ونحن جالسون فيه وإن كانت نوافذنا مغلقة، بل تقتحم المدارس وساحاتها ولم نعد نملك سوى التحسر على أجيال المستقبل التي من واجبنا التفكير فيها باعتبارها أمانة تلخص معنى وجودنا. علاقاتنا الإجتماعية اليوم طغت عليها الكثير من البروتكولات أرهقت كاهل الإنسان ، أصبحت علاقات فارغة من روحها ولا تعبر في جلها إلا عن المصالح. أعراسنا مفخرة وتباهي وتكبر أو ربما تحد، لم يعد الزواج رسالة اجتماعية نبيلة ... تأملنا الأسر اليوم فلم تعد اللمة العائلية ما يفرح ولا نجتمع على مائدة الطعام كما كنا نناقش أو نتبادل أطراف الحديث ونختصر المسافات بيننا فنعرف بعضنا عن قرب. وللأسف في الوقت الذي كثرت فيه وسائل الإتصال تباعدنا وتباعدت المسافات بيننا. أصبحنا دمى كراكيزية أمام العالم الإلكتروني بدعوى التقدم والحضارة ولا يمكننا أن نعيش بعيدا عن الجديد خوفا من أي نعت بالتقادم والرجعية. حتى العلاقات الزوجية لم يعد فيها ذلك الهمس بين الأزواج تعبيرا عن حياتهم الخاصة ودليلا على أن شيئا يجمعهما غير الجسد، كل واحد في عالمه ارتبط بالهاتف أكثرمن ارتباطه بشريك حياته ... الناس اليوم تراها في الشوارع تتكلم و تظنها في حالة جنون والواقع أن الهاتف لم يعد يفارقنا، وكأننا لا نتكلم عندما نلتقي ، نتتبع خطوات بعضنا دون كلل أو ملل. أرهقنا أنفسنا أكثر من اللازم فقل تركيزنا من كثرة التعب، أنت هنا وتفكر فيمن هناك وهنالك، لم يعد يتمتع الإنسان بأوقات الراحة بل حتى النوم لم يسلم، أقلقت مضاجعنا رنات الهاتف حتى في حالات المرض. قل نوم الإنسان بعد دخوله للعالم الإلكتروني بل لم يعد سباتا. ساعاتنا البيولوجية اضطربت وصار كل إهمالنا للعمل له مايبرره . صداقات عالمية تحدّت الفروق الزمنية ولم يعد الإنسان يقوى على هذا التغيير، لقد اخترقنا العالم الإفتراضى ودق معه ناقوس الخطر في جميع المجالات، مهما قلنا عنه يكفينا أن نقول هواتف ذكية اعتمد عليها الإنسان فأصبح غبيا.
أما أطفالنا اليوم لم يعد يسكتهم حضور الآباء بل يكفي إحضار الهاتف ليشعر بالبهجة مستغنيا عن أية علاقات اجتماعية و حتى عن اللغة لأنه لم يعد في حاجة إليها، فرضت عليه لغة عصره وعالمه الإلكتروني ... يبدو أنه سيأتي يوم نرى فيه أجيالا بكماء و انطوائية، خصوصا وأنه لم يعد الطفل يعيش طفولته ونموه النفسي الحركي، بل أهوس بدوره ولم تعد البراءة التي أحببناها فيه...
أهوسنا بكثرة النظافة و النظام حتى لم يبق في حياتنا سوى الرتابة والملل والتخوف من مرض قد يأتي وربما لن يأتي، مع ذلك ضعفت مناعة الإنسان وضعف جسده واضطرب مزاجه، وصار الخوف اليومي من الأرق الذي قد يباغته في أية لحظة. انشغلنا بالموضة وآخر صيحاتها والماركات العالمية وكأن الجسد والمظهر ما يعبر عن هوية الشخص، تناسينا الجوهر وفكر الإنسان وقدراته وانجازاته في مقابل رصيده البنكي وسيارته الفخمة وممتلكاته وعقاراته... أفرغت حياتنا من غاياتها ألا وهي حب الحياة والتمتع بها في بساطتها، الكل يجري ولا أحد ينتهي، الكل يصارع القلق والخوف من المجهول ويعاني الضغوط. طغت المادة على تفكيرنا وكأنها هي الغاية من كل تواجد. لم تعد الحياة الهادئة ما نفكر فيه وما نريد استطعامه بنوع من الرضا، نترك ما نتمتع به ونبحث عن أي شيئ لا نملكه ويقهر الإنسان ويظلم نفسه مرتين حرمانه مما يملك وحرمانه مما لا يملك وينتهي به المطاف في سعادة مستعصية. لم نعد نتكلم عن الصراع بين الأجيال كما كنا في الماضي، بل أصبح الصراع مع كل شيئ وأي شيئ ،حتى القيم تغيرت مع الزمن أو ربما اتخذت معاني غير تلك التي نعرفها، بل أضحى كل واحد يعطيها معنى خاص به، لتتخذ كل القيم الطابع الفردي البراغماتي ويتشبت به ملزما الآخرين وكأنه المرجع ولا مرجع سواه. هكذا أخرج الإنسان من كينونته واعتبر من عالم الأشياء لتبدأ معاناته مع نفسه في بعده الذاتي ومع غيره في بعده العلائقي ليعيد التاريخ نفسه وتعود النزعة الإنسانية لتنادي بضرورة استرجاع القيم الإنسانية النبيلة والدعوة للحب والسلام وتنمية الإنسان من جديد واستخراج ما فيه من الخير على اعتبار طبيعته الخيرة وحبه للخير لنفسه ولغيره. لا زلنا وسنظل اليوم نصارع كل الظواهر الإجتماعية وإذا لم نواجه الأمر ستطفو ظواهر أخرى تعلن فشل المنظومة القيمية الحالية في إنشاء إنسان متزن صالح لنفسه وللآخرين. لازال باب الأمل مفتوحا للدعوة من جديد للتربية قبل التعليم وللإنسان قبل الشواهد التي نجري وراءها، ثم التعامل مع الإنسان في كليته دون تجزيئه بحيث لا يمكن فهمه والتفاهم معه إلا في هذا الترابط الضامن لروحه والكاشف عن مجموعة من تفاعلات نفسية اجتماعية عقلية ثقافية روحية تربوية تنسجم في خلطة معينة تنتج إنسانا بطابع خاص متفرد خلاصة عصره وزمانه. حقيقة التطور جعل جل المعارف الماضية موضع تساؤل : المعلومة اليوم تطرق أبوابنا من تطور علمي بشكل سريع،إلى مستجدات في كل شيئ قلبت حياة الإنسان، لم يأخذ وقتا ليدرس ويجد نفسه فيها ولم يستوعب متطلبات العصر الإلكتروني الجديد الذي يفرض إنسانا إلكترونيا يتواصل معه. والواقع أنه لبس قناعا واعتقد أن حقيقته التي تاه عنها لم يعد يجدها. ظن نفسه ذكيا مواكبا لعصره لكنه مقلد تائه عن حقيقته. ألم يحن الوقت لتأمل واقعنا بشكل جماعي و إيجابي للوقوف من جديد على أي ثغرة تخل بتوازننا في حياتنا الفردية والجماعية والإنسانية باعتبار أن هناك علاقة ثلاثية لا يمكن الفصل بينها، فكل تصدع في الفرد هو تصدع في المجتمع وفي الإنسانية. وخلاصة القول إن أزمة الإنسانية اليوم في المنظومة القيمية وتصدعها هو ما أنتج ظواهر يصعب التعامل معها دون الدعوة من جديد لهذه القيم السامية التي أدت عبر التاريخ إلى سمو الإنسان والإنسانية و خروجه من العالم الطبيعي إلى العالم الثقافي، حينها أصبح مبتكرا ومبدعا ولكن كان عليه الحفاظ على خصوصيته في حفاظه على بعده القيمي.