الذنوب حجاب عن الله، والانصراف عن كل ما يبعد عن الله واجب، وإنما يتم ذلك بالعلم والندم والعزم، فإنه متى لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن الله لم يندم على الذنوب ولم يتوجع بسبب سلوكه طريق البعد، وإذا لم يتوجع لم يرجع.
معنى التوبة وشروطها:
التوبة: هي الرجوع عن المعصية إلى الطاعة، وهي واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين ربه تعالى فلها ثلاثة شروط: (الأول) الإقلاع عن المعصية، وعلامته مفارقة الذنب فورا. (الثاني) الندم على فعلها، وعلامته طول الحزن على ما فات لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الندم توبة)[أحمد، صحيح الجامع:6802] (الثالث) العزم على أن لا يعود إلى معصية أبدا، وعلامته التدارك لما فات وإصلاح ما يأتي، فإن كان الماضي تفريطا في عبادة قضاها، أو مظلمة أداها، أو خطيئة لا توجب غرامة، حزن إذ تعاطاها.
فإن فقد أحد الشروط الثلاثة لم تصح توبته، وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي زاد شرط رابع وهو: أن تبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالا أو نحوه رده إليه إن كان موجودا أو رد بدله عند تلفه من قيمة أو مثل، وإن كان حد قذف ونحوه مكنه منه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها إن كان عاقلا حليما يغلب على الظن أنه إذا جاءه أخوه المسلم نادما تائبا عفا عنه وسامحه، وإلا فليستغفر له. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم:8].
مفهوم التوبة النصوح قال ابن القيم: "النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء: (الأول) تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنبا إلا تناولته. (الثاني) إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوم ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادرا بها. (الثالث) تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها، ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده. لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته ولحفظ حاله أو لحفظ قوته وماله، أو استدعاء حمد الناس أو الهرب من ذمهم، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء، أو لقضاء نهمته من الدنيا، أو لإفلاسه وعجزه، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل. فالأول يتعلق بما يتوب منه، والثالث يتعلق بمن يتوب إليه، والأوسط يتعلق بذات التائب ونفسه، فنصح التوبة الصدق فيها والإخلاص وتعميم الذنوب بها ولا ريب أن هذه التوبة تستلزم الاستغفار وتتضمنه وتمحو جميع الذنوب، وهي أكمل ما يكون من التوبة".
مخاطر التسويف: ومن المعوقات الضارة التسويف بالتوبة، فمن أين يعلم الإنسان أنه يبقى إلى أن يتوب، فتارك المبادرة بالتوبة بين خطرين عظيمين: (أحدهما) أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى تصير رينا وطبعا. (ثانيهما) أن يعاجله المرض فلا يجد مهلة للاشتغال بمحو ما وقع من الظلمة في القلب، فيأتي ربه بقلب غير سليم، ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم، وقد قال العلماء: ما مثال المسوف بالتوبة إلا مثال من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة، فقال: أأخرها سنة ثم أعود إليها، وهو يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازدادت قوة لرسوخها، وكلما طال عمره ازداد ضعفه فلا حماقة في الدنيا أعظم من حماقته إذ عجز مع قوته عن مقاومة ضعيف فأخذ ينتظر الغلبة عليه حتى ضعف هو في نفسه وقوي الضعيف.
قال ابن القيم: "فإذا أراد الله بعبده خيرا فتح له من أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به وصدق اللجأ إليه ودوام التضرع والدعاء والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون تلك السيئة به سبب رحمته، حتى يقول عدو الله يا ليتنى تركته ولم أوقعه، وهذا معنى قول بعض السلف: إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، ويعمل الحسنة يدخل بها النار، قالوا كيف؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه خائفا منه مشفقا وجلا باكيا نادما مستحيا من ربه تعالى ناكس الرأس بين يديه منكسر القلب له، فيكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة، ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه ويتكبر بها ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول: فعلت وفعلت؛ فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه، فإذا أراد الله تعالى بهذا المسكين خيرا ابتلاه بأمر يكسره به ويذل به عنقه ويصغر به نفسه عنده، وإن أراد به غير ذلك خلاه وعجبه وكبره، وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه، فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق أن لا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان أن يكلك الله تعالى إلى نفسك".
علامات قبول التوبة: وقال رحمة الله: التوبة المقبولة الصحيحة لها علامات: (منها) أن يكون بعد التوبة خيرا مما كان قبلها. (ومنها) أنه لا يزال الخوف مصاحبا له لا يأمن مكر الله طرفة عين، فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت:30] فهناك يزول الخوف. (ومنها) انخلاع قلبه وتقطعه ندما وخوفا، وهذا على قدر عظم الجناية وصغرها، وهذا تأويل ابن عيينة لقوله تعالى: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة:110]، قال: تقطعها بالتوبة، ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يوجب انصداع القلب وانخلاعه، وهذا هو تقطعه وهذا حقيقة التوبة، لأنه يتقطع قلبه حسرة على ما فرط منه وخوفا من سوء عاقبته، فمن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرة وخوفا تقطع في الآخرة إذا حقت الحقائق وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين، فلا بد من تقطع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة.
( ومنها) كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء ولا تكون لغير المذنب، لا تحصل بجوع ولا رياضة ولا حب مجرد، وإنما هي أمر وراء هذا كله، تكسر القلب بين يدي الرب كسرة تامة، قد أحاطت به من جميع جهاته، وألقته بين يدي ربه طريحا ذليلا خاشعا، كحال عبد جان آبق من سيده، فأخذ فأحضر بين يديه، ولم يجد من ينجيه من سطوته، ولم يجد منه بدا ولا عنه غناء ولا منه مهربا، وعلم أن حياته وسعادته وفلاحه ونجاحه في رضاه عنه، وقد علم إحاطة سيده بتفاصيل جناياته، هذا مع حبه لسيده وشدة حاجته إليه وعلمه بضعفه وعجزه وقوة سيده، وذله وعز سيده، فيجتمع من هذه الأحوال كسرة وذلة وخضوع ما أنفعها للعبد، وما أجدى عائدتها عليه، وما أعظم جبره بها، وما أقربه بها من سيده، فليس شيء أحب إلى سيده من هذه الكسرة والخضوع والتذلل والإخبات والانطراح بين يديه والاستسلام له.
فلله ما أحلى قوله في هذه الحال: (أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجي منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه وفاضت لك عيناه وذل لك قلبه).
فهذا وأمثالها من آثار التوبة المقبولة، فمن لم يجد ذلك في قلبه، فليتهم توبته، وليرجع إلى تصحيحها، فما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة، وما أسهلها باللسان والدعوى، وما عالج الصادق شيئا أشق عليه من التوبة الخالصة الصادقة ولا حول ولا قوة إلا بالله.