أين نحن من ذاك المثقف المغربي، ذي السلطة المعرفية الرمزية التي فاقت في عديد من الأحيان السلط الأخرى. قلمه أحد من السيف، دويه أشد من دوي البندقية، محاضراته ملأى عن آخرها، خطاباته عميقة ومفهومة. اليوم، نظرة سطحية للمشهد الثقافي المغربي من خلال أعين مشاهد غير مهتم بالميدان كفيلة برسم ملامحه البائسة التي يحاول مثقفونا، عبثا، تجميل تقاسيم أهلكها الدهر ووصلت حد التقادم. صمت مقيت، كأنهم-أي المثقفون- ابتلعوا ألسنتهم جراء عملية نفخ للشفاه، ليس بالبوتكس، بل بريح فاسد. رغم ذلك، لا يجب أن نجعل الحكم مطلقا، فهناك، من مثقفينا ومن مؤسساتنا الثقافية، من خالف القاعدة، وكسر النمطية، فقام بإصدار بيانات، رغم هزالتها، وتجاوزا لرائحة الخوف التي تفوح منها، فإنها تسير في اتجاه وصف الواقع، والتنديد في بعض الأحايين بما يخالف "الصواب الثقافي"، نعم "الصواب الثقافي"، فكما يوجد "الصواب" في علاقاتنا الاجتماعية تجسيدا لقيم الاحترام، يوجد أيضا في الساحة الثقافية؛ ندوة حول رواية فلان، يوم دراسي حول ديوان فلان، مائدة مستديرة حول المشروع الفكري لفلان.... بطبيعة الحال، إنها التفاتات محمودة إلى "المنتوج المحلي" باللغة الاقتصادية، تنشر ثقافة الاعتراف، لكن هذه اللقاءات "الفكرية" التي يؤطرها "المثقفون" لا تلامس الواقع المغربي، وأقصد بالواقع ما يحدث من أزمات ومشاكل واختلالات تقتضي تدخل نخبةٍ انشغلت بالمحاباة، ليس نسيانا ولا تناسيا، ولكن خوفا من اتخاذ موقف سيجعلها "مصنفة" ضمن خانة المعارضين، أو على الأقل في خانة "غير المحايدين". ورغم هذا كله، تعد هذه الفئة أقل ضررا من فئة أخرى "تتمشي مع الرابحة"، فتغير من مواقفها، كحال تبدل الطقس في أكادير، دون حشمة أو حياء، مستعينة في ذلك "بسنطيحتها" الضخمة التي تقي بها نفسها من غضب المتتبعين وسخط المشاهدين.
أين نحن من أركون والجابري والعروي وغيرهم من المفكرين المغاربة الذين انشغلوا بالفكر الحقيقي بعيدا عن النفاق الثقافي (من النفاق الاجتماعي)، فألفوا مؤلفات تخوض، بحق، في إشكالات حقيقية وعميقة كانت لها راهنيتها ولازالت (سياسية واجنماعية ودينية وتربوية...). أين نحن من ذاك المثقف الذي لا يكتفي، بالقول فقط، بل يتجاوزه بالفعل ورد الفعل، ذاك المثقف الذي يمتلك، حسب تعبير أنطونيو غرامشي، مشروعا ثقافيا يتمثل في الإصلاح الثقافي والأخلاقي. أين نحن من ذاك المثقف الذي يعي كيفية التشخيص، واقتراح الحلول والبدائل، وطرق المواجهة، لا يخشى الظهور، ولا يرتدي أقنعة، ولا يتكلم بأسماء مستعارة.
أجد نفسي، للأسف، أبحث عن بطل ذي ملامح خرافية بمعايير هذا العصر، له من الشجاعة والقوة الفكرية ما يكفي ، ليس لإحداث التغيير فهذا صعب في هذا الزمن، بل لزرع أمل يرسم خارطة طريق لجيل فقد البوصلة، فلا هو راوح مكانه بحثا عن الاتجاه الصحيح، ولا هو أتعب عقله ففكر فيه فقط، فاكتفى بحائط أزرق افتراضي يندد فيه ويستنكر ، ظنا منه أن هذا ما يلزم لإحداث التغيير.