تأتي مقاطعة الدول الخليجية الثلات، السعودية والبحرين والإمارات بالإضافة لحليفتهم مصر،لقطر تعبيرا عن أنه قد طفح بهم الكيل، و ملوا من تصرفات هذه الإمارة الصغيرة ، التي باتوا ينظرون اليها كحجر في حذاء المنطقة يعوقها عن الاصطفاف المجدي والفعال في محيط اقليمي يغلي بالفتن والاضطرابات. وبالرجوع لكرونولوجيا الأزمة الخليجية،نجد أن هناك ثلاث مؤاخذات رئيسية أطرت عملية قلب الطاولة من طرف هذه الدول المحاصرة على حكام الدوحة، فشكلت منطلقا للمطالب الخليجية التي يتعين الاستجابة لها لإنهاء المشكلة الطارئة 1- الانتفاض في وجه الانفتاح القطري المبالغ فيه على إيران، و الذي بلغ مستوى لم يعد يسمح لهذه الدول الجارة ،وبالخصوص للعربية السعودية زعيمة العالم الإسلامي السني بالتغاضى وغض الطرف. إذ لم تعد الشقيقة الكبرى لقطر ، تنظر إلى الود القطريالإيراني بعين الامتعاض والسخط فقط،وإنما أصبح لدى قادتها الحاليين والمستقبليين بمثابة طعنة في الظهر، تضعف مكانتهم إقليميا لصالح غريمهم الشيعي الإيراني الذي بدأ يقضم بنفوذه حواف الوطن العربي، بل ويبتلع عدة عواصم عربية شكلت على مرور الأيام رمزا تاريخيا للخلافة الإسلامية السنية من مثل بغداد ودمشق . 2-ثاني هذه المآخذ، توظيف الإمارة الصغيرة لأدواتها التواصلية كمنصات هجوم حربية فتاكة تستهدف هذه الدول و أجزاء أخرى كبيرة من الوطن العربي،وليس كمنصات إعلامية يقف دورها عند حدود تجميع عناصر الخبر وتحليل المعلومة والتعليق عليها بحيادية ومهنية. 3-ثالث هذه المآخذ ، تدخلها في الشؤون االخاصة للعديد من الدول العربية من خلال استغلال الصعوبات التي تعانيها هذه الدول في المجال الاجتماعي والاقتصادي والديمقراطي ،وذلك بتأليب المواطنين ضد الأنظمة،وخلق وعي ثوري يروم قلب الأوضاع، و خلط الأوراق ، من خلال تغليب تيار الإسلام السياسي ممثلا في الإخوان المسلمين ومساعدتهم بكل الإمكانيات على الوصول إلى سدة الحكم . ورغم أن قطر قد سعت من جانبها من خلال امتداداتها الإعلامية والدبلوماسية والمالية، إلى تفنيد كل هذه المآخذ، إلا أن الملاحظ المنصف لا يستطيع إلا أن يقر بأن هذه الإمارة، قد أضحت منذ زمن تشكل استثناء ونشازا ان سلبا او إيجابا ضمن دول مجلس التعاون الخليجي.وأنها تمكنت بالفعل، وعلى المستوى الدولي ،من إعطاء انطباع عن نفسها يمايز بينها وبين شقيقاتها .هذه الصورة المنحوتة بعناية من قبل حكام الدوحة تؤكد بتوالي المواقف هذا المنحى، وتلك السمات الواردة في المآخذ الثلاثة المذكورة. ومع ذلك، يبدو جيدا أن الارتماء أو محاولة الارتماء في الحاضنة الشيعية إيران ،يبقى في نظر الدول المقاطعة والمحاصرة، أهم سبب وجيه للشروع في هذه الإجراءات التأديبية، لأنها لا تقدر أن تتصور أبدا أن يصبح السيف القطري بمضاءه الاقتصادي والإعلامي في الغمد الايراني خصوصا في هذا الظرف المتميز بحدية المواجهة بين الأطراف . من الواضح مثلا ،أنه لا يمكن للدول المتحالفة ضد قطر أن تسير الى أبعد مدى في مطلبها الخاص بإغلاق قناة الجزيرة ، القوة الإعلامية الضاربة لقطر.وانما هو سقف للتفاوض فقط، يمكنه أن يخلص في النهاية إلى التخفيف من وطأة هذه القناة على أهل الدار من دول مجلس التعاون الخليجي، وتوجيه فوهات م دفعيتها لوجهات أخرى، خصوصا وأن للمملكة العربية السعودية أيضا قناتها العربية وللإمارات المتحدة بدورها قناة سكاي نيوز، واللتان تمكنانهما من تصريف مواقفهما السياسية على مستوى الرقع الإقليمية والعربية والدولية.ولمصر كذلك مابات يعرف الآن بإعلام السيسي الذي لا يدخر جهدا في الدعاية لنظام مابعد 30 يونيو بمصر.كما أن قادة الدول الأربعة يعرفون أن المهم ليس لجم الجزيرة أو إعدامها، وإنما التأثير على النهج الإعلامي القطرى ،بما يجعله يتماهى مع السياسة الإقليمية و الدولية لدول الخليج. وكذلك هم يتفهمون ولا شك في قرارة أنفسهم ،أنه لا يمكن الطلب والإلحاح على قطر بعدم التدخل نهائيا في شؤون الداخلية للدول الأخرى، لأن دولة صغيرة كقطر لا يتعدى عدد سكانها 2،5 م نسمة يمثل السكان الأصليون منهم النزر القليل، وتقل مساحتها عن 12 ألف كلم مربع، لا يمكنها تعويض هذا القصور الديمغرافي والجغرافي، إلا من خلال الديبلوماسية والإعلام والعلاقات الخارجية. كما أن لاخيار أمامها في ظل عجزها عن تشكيل قوة عسكرية ضاربة نظرا لغياب الإمكانات الجغرافية والعمق المجالي تساعدها على إثبات الذات والحضور على الساحة الدولية، الا التحول إلى قوة مالية ونفطية وغازيةوإعلامية.كما أن التدخل السعودي في اليمن لأجل حماية حدودها المذهبية، وانخراط الإمارات في بعض مناطق التوتر، يمنح لقطر ورقة تفاوضية أيضا لتبرير ما تقوم به خارج حدود هذه الإمارة المثيرة للجدل، والذي وإن كان لايروق لدول التحالف، فإنه على الأقل لا يتم الى الآن فوق أراضي الخليج.إذا استثنينا مصر التي تريد أن تضع حدا للدور القطري في إذكاء الساحة السياسية المصرية ودعم الاخوان المسلمين وايواءهم والتحشيد لهم من جديد. إننا نعتقد أن العقدة الكبرى للمشكلة تكمن في التقارب الكبير الذي لا تفتأ توقع عليه قطر مع إيران ،والذي لا تزيده مجريات الأحداث إلا رسوخا. الشيء جعل قطر تغرد في نظر بقى إمارات وممالك الخليج خارج السرب الخليجي.بل هو يمثل خروجا معلنا عن الخلفية الاستراتيجية التي كانت منذ البداية وراء خلق مجلس التعاون الخليجي في 25 ماي من سنة 1981.والذي شكل في إبانه ردا جماعيا لدول الخليج إزاء أحداث اقليمية مرتبطة بايران خصوصا.حيث سبقه القضاء على ملكية رضا بهلوي وميلاد الجمهورية الإسلامية الإيرانية في فبراير 1979م، و كذا اندلاع الحرب العراقية الإيرانية سنة 1980م كأول تماس شيعي سني آنذاك، وبشكل أقل غزو أفغانستان من طرف الاتحاد السوفياتي سنة 1981.واذا انتبهنا قليلا، وأعدنا ترتيب الأحداث زمنيا،سنلاحظ أنه سبق إعلان الدول الأربعة لمحاصرتها لقطر بتاريخ 5يوليو 2017 ،عدم تحفظ حكام الدوحة في تهنئة الرئيس الإيراني روحاني بمناسبة إعادة انتخابه رئيسا للبلاد، بينما لازالت تصريحات الرئيس ترامب خلال القمة الأمريكية الإسلامية يومي 22 و 23 ماي بخصوص إيران ترن وتدوي في الآذان حول دورها في زرع بذور الفتنة والبلبلة بالمنطقة، ورعايتها للإرهاب. إن هذا السلوك الذي لم يمر مرور الكرام ،بل وسجلته الدول الأربعة في الملف القطري على أنه خذلان لها يأتي من إمارة عضو في مجلس التعاون الخليجي ،يوحي في طياته ويبعث رسالة غير ودية المنتظم الدولي، بأن الملكيات الست الخليجية ليست ذات رؤيا واحدة ، وليست بالخصوص على القلب الواحد للشقيقة الكبرى ،العربية السعودية. هذا بالإضافة إلى أن هذا الاختراق الذي تمكن منه قطرإيران الشيعية، قد يتحول في نظر العديد من الدول الإسلامية التي توافق السعودية الآن في توجهاتها الدولية والمذهبية، إلى نموذج يحتذى ويقتدى به .بل ويجعل قطر تظهر بمظهر الدولة المنافسة للسعودية ،رغم الاختلاف البين في الثقل العسكري والاستراتيجي بينهما.وهو ما قد يفرض نوعا من السباق نحو الاستقطاب تلعب فيه قطر دور العراب للجهة الأخرى ، سوف لن يكون بالتأكيد دون أعباء مالية للسعودية، التي تخوض في هذه الآونة حربا مكلفة باليمن.وهو الأمر الذي سيؤدي إلى إنهاكها اقتصاديا ، ويخدم في النهاية المخطط الإيراني،بتسهل هدف إحكام طهران لسيطرتها على كل المنطقة. وهذه حرب استنزافية من شكل آخر بين الغريمين إيران والسعودية. إنه لا يمكن بتاتا للسعودية ولالدول الخليج، أن تترك البلل يتسرب إلى سفينة مجلس التعاون الخليجي.كما لا يمكنها السماح لقطر بالإمعان في تلغيم هذا المجلس، الذي تراهن السعودية على بقاءه متراصا في وجه المد الشيعي. ولا السماح لإيران ايضابمناجزتهم النفوذ على الأرض الخليجية. فأي جيب إيراني في منطقة الخليج سيقرض رويدا رويدا الإجماع واللحمة الخليجية، وسيكون له مابعده من آثار ومخلفات إضافية على استقرار المنطقة. إن دول الخليج تعي أن أنظمة الحكم لدول الخليج في كنهها متشابهة، بل ومتطابقة بما في ذلك قطر.ولذلك ليس لواحدة من الملكيات والإمارات الستة أن تزايد على الأخريات في هذا المجال.وتعي كذلك أن حقائق الجغرافيا لاتتبدل.وأن دولة قطر لا يمكننا أن تختار جيرانا آخرين من غير الجيران الحاليين.وأن جارها الأبدي من ناحية البر هو السعودية التي تصلها عن طريقها 90 في المئة من وارداتها الغذائية. لذلك فإن السعودية، مطمئنة إلى أن قطر واعية، ولايعوزها الذكاء الاستراتيجي، لتفهم أن عليهما في النهاية أن يضعا قواعد نهاءية لمبادىء التعامل بينهما ،ويلتزما بمبادىء حسن الجيرة. واخيرا،ليس هذا أول خلاف يندلع بين الإمارة القطرية والمملكة السعودية. فقد سبقته عدة اصطدامات وقلاقل، كان أبرزها الحادث الحدودي بمركز الخفوس سنة 1992، واستدعاء السفير السعودي بالدوحة سنتي 2002 و2014.لكن هذه الخلافات، كان يتم حلها في إطار العائلة الخليجية حيث تخصصت كل من الكويت وسلطنة عمان بنجاح داءم في الوساطة والتوفيق بين الدولتين.وهذاالتراكم في حد ذاته مطمئن بالنسبة لمسار هذه الأزمة الطرية ،التي لا تتميز عن سابقاتها ، إلا بكون دوي الخلاف تجاوز هذه المرة جدران البيت و بكون مبادرات رأب الصدع، وإصلاح ذات البين، ستتم أيضا على يد الغرباء لا عن طريق الأقرباء وحدهم.وهوما يجعل الحل يتطلب وقتا أطول ،ويكون مكلفا أكثر لكل الأطراف، ولكن الأهم أنه ممكن ،بل وحتمي، لأنه مفروض في الحقيقة بقوة الجغرافيا والتاريخ.