القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أحكمت آياته، وأتقنت فصوله، وأبدعت جمله، واختيرت كلماته، وعلا أسلوبه، واتفقت معانيه، وائتلفت مبانيه؛ فلا ترى فيه عوجا ولا أمتا، ولا تجد فيه اختلافا ولا تناقضا، وصدق الله إذ يقول: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]. ومن ثم كان القرآن الكريم مناط أنظار العلماء، وموضع عنايتهم في القديم والحديث، وإن تعددت جهات نظرهم إليه، وتباينت مشاربهم منه.
ونحن في هذه الكلمة الموجزة نحاول أن نلم إلمامة يسيرة بناحية من نواحي عظمة هذا الكتاب الحكيم، وهي ناحية إعجازه، فنقول:
أنزل الله هذا الكتاب فأعجز به سائر البشر، ووقفوا منه في كل زمان ومكان موقف المبهوتين الذين بهرهم أسلوبه، وأخذت بمجامع قلوبهم جزالته، واستولت على نفوسهم عظمته، حتى إن بعضهم كان يعترف بقوة القرآن الكريم، وعظيم سلطانه على النفوس حينما يثوب إلى رشده، ويخلع رداء العصبية الجاهلية عن نفسه.
وليس أدل على إعجاز القرآن الكريم من نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب حين نبوغهم في صنعة الكلام، ونظم الشعر، وترسيل الرسائل، ونسج الخطب، وتفوقهم في أساليبها وتنسيقها، وجولاتهم الكثيرة المتتالية في ربوع القول، وأفانين الحديث، بل كانت إجادة القول غاية فخرهم، ونهاية شرفهم، ومنتهى ما تصبو إليه نفوسهم. وكانت لهم أسواق يقيمونها يقصد إليها الناس من كل صوب، ويؤمونها من كل حدب؛ يتبارون في إنشاد الشعر وإلقاء الخطب، متفانين في ذلك إلى حد كبير، حتى ظهر ذلك الفرقان العظيم والذكر الحكيم، على يد ذلك الأمي الكريم، الذي يعلمون عنه تمام العلم أنه لم يتلق عن أستاذ، ولم يجلس إلى فيلسوف، ولم يقرأ سفراً، ولم يكتب سطراً، فأخرس ألسنتهم، وأخمد أنفاسهم، فلم يجدوا حينئذ جوابا!.
سب آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، وسفه أحلامهم، وجهلهم غاية التجهيل، وطلب إليهم أن يعارضوه فما استطاعوا، مع شدة حرصهم على معارضته، والتماس الوسائل قريبها وبعيدها لإبطال دعوته. تحداهم أن يأتوا بمثله كما قال تعالى: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)[الطور:34], وأمهلهم طوال الأيام فما نطقوا؛ فتنزل معهم إلى عشر سور حيث قال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[هود:13]. وانتظرهم فبهتوا وما تكلموا؛ فتنزل معهم إلى سورة واحدة من سوره، فقال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)[البقرة:23، 24]. فخارت قواهم، وضلت أفكارهم، وانسدت المسالك أمامهم، وغدوا بعد ذلك صاغرين.
ولعمر الحق لو كانوا يقدرون على معارضته لفعلوا، وخلصوا أنفسهم وأهليهم وأموالهم من سلطته، والخضوع لدعوته إن طوعا وإن كرها، لاسيما وتأليف الكلام الجيد أمر سهل عليهم؛ إذ أنه عادتهم في لسانهم، ومألوف خطابهم، وهم أحرص الناس على إطفاء نوره الساطع، وإخفاء أمره الصادع، شأن كل عدو مع عدوه؛ فكيف إذاً لا يعارضون بألسنتهم، وميسور عاداتهم، وهو أيسر لهم وأهون عليهم لو وجدوا لذلك سبيلا؟
استطال عليهم بأنواع المذام، والقوم أولو حمية وعصبية، ورماهم من وقت لآخر بالعجز عن مباراته، والضعف عن مجاراته، والقوم ذوو أنفة وإباء، ومع ذلك لم يتحرك منهم ساكن، ولا قام واحد منهم في وجهه، ولا حدث نفسه أن يقوم، فحكم لنفسه حكما قاطعا حيث قال:(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[الإسراء:88].
سبحان الله! ألا فلينظر القارئ الكريم إلى هذه الثقة بالنفس، وهذا الشموخ الذي لا يدانيه سواه، هل يطيقه ويقدر عليه إلا من أحاط بقدر الناس وقواهم خبراً، ووسع كل شيء علما؟.
هل مثل ذلك القضاء القاطع بأنهم لن يستطيعوا مهما تضافروا واستظهر بعضهم ببعض أن يأتوا بشيء من مثله، هل مثل ذلك القضاء يمكن أن يكون قضاء بشريا؟. كلا! إنما ذلك قضاء العليم الخبير الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
إذن فالقرآن الكريم كلام الله تعالى، أنزله على خير خلقه، وصفوة رسله، ليكون آيته الكبرى، ومعجزته العظمى، المؤيدة لدعوته، الشاهدة بصدق نبوته، ولا يعقل أن يؤيده بدليل يتلاشى أمام البحث، ويذهب سدى عند النقد الصحيح.
وإذا كان القرآن قد أعجز سائر العرب مع تضافرهم وتظاهرهم، وكثرة عددهم، وفصاحة لسانهم، وقوة بيانهم، وطول زمان معارضتهم، فلأن يكون لغيرهم أشد إعجازاً وأقوى مباراة وأعظم نضالا. وهل يتطاول نحو هذا الحمى ذلك الأعجمي الألكن، أو الصبي الذي لا يكاد يبين؟
بلى إن القرآن الشريف فوق طاقة جميع المخلوقين، وأعلى بكثير مما قد تصل إليه قدرهم، ولا عجب فهو تنزيل من جبار الأرض والسماء الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.