تقديم: تبدو جوانب التأثير والتأثر الحضاري بين شعوب المعمورة أكثر وضوحا منذ العصر الوسيط، مرورا بالعصر الحديث، ثم وصولا إلى التاريخ المعاصر، بحيث يمكن رصد مجال ظهور هذا الإنتاج الحضاري أو ذاك، وكشف وسائل وطرق انتشاره، والمجموعات البشرية المنتجة له، إلى أن نصل-في العصر الراهن-إلى تحديد أكثر دقة لمصادر انبثاق الكثير من عناصر الحضارة، ونسبها إلى أشخاص ذاتيين أو اعتباريين محددين بالأسماء، وتحديد براءة اختراع المنتج الحضاري لأشخاص أو شركات. وإذا كان الأمر بهذا القدر من الوضوح بالنسبة للعصر الراهن، فإن البحث في إشكالية أصل الإنتاجات الحضارية والمجموعات الإثنية-وإن كان ذلك مشروعا من الناحية العلمية-فإنه بالنسبة للتاريخ القديم قد يطرح عدة إشكاليات كما سنبين ذلك في هذا الحيز. التحديد المفاهيمي: سنوظف في هذا المقال عدة مفاهيم لمقاربة إشكالية الأصل في بحوث التاريخ القديم، يمكن عرضها كما يلي: -الأصل: إن مفهوم الأصل يَفْتَرِضُ-بوجه عام-وجود مصدر وحيد أصيل ومحدد بدقة لكل الإنتاجات الحضارية المعروفة خلال التاريخ القديم، بحيث يمكن الحديث-نظريا-عن أصل مطلق يمكن تحديده على مستويي مجال الإنتاج والمجموعات البشرية المنتجة. -الإنتاج الحضاري: يحيل هذا المفهوم إلى كل ما توصل إليه الإنسان خلال مسار تفاعله مع الطبيعة من حوله، منذ ما قبل التاريخ وما قبيل التاريخ، وصولا إلى الفترة التاريخية من إنتاجات مادية وغير مادية. -التاريخ القديم: يمثل عصرا من التحقيبات التاريخية التي توصل إليها العلم الحديث في مسعى رسم كرونولوجيا عامة لتاريخ البشرية وحضارات الإنسان. ويشمل التاريخ القديم عصور ما قبل التاريخ وما قبيل التاريخ(عصور صهر المعادن واستعمالها) ثم العصر التاريخي الذي يبتدأ باختراع واستعمال الكتابة وينتهي سنة 476م تاريخ سقوط روما. بين الأصل والأصل المطلق: يتوجب الإقرار مُقدّما بأن الأصل المطلق قد ظل ولا يزال انشغالا أساسيا، وتيمة مركزية في الأبحاث التاريخية والأثرية في الغرب. ولعل مردّ ذلك إلى تأثر الأبحاث وبشكل كبير ببعض العلوم المساعدة للتاريخ التي يعد فيها البحث عن الأصل هاجسا محوريا مثل الأنطروبولوجيا(علم الإنسان) والإثنوغرافيا(علم طبائع الإنسان). لقد استلزم الخوض في إشكالية أصل الإنتاجات الحضارية وأصل المجموعات العرقية الاستعانة بعدد كبير من العلوم المساعدة للتاريخ. ففضلا عن الأنطروبولوجيا والإثنوغرافيا، فقد تم تسخير علوم الباليوغرافيا(علم الخطوط القديمة)، والإيبغرافيا(علم النقائش القديمة)، والأركيولوجيا(علم الآثار)، والجيولوجيا(علم طبقات الأرض)، والإيكولوجيا(علم البيئة)، والسيراميك(علم الخزفيات)، والطوبونيميا(علم أسماء الأماكن والأعلام)...إلخ. لقد أمكن بفضل هذه العلوم المساعدة التعرف على مصادر عدد من الإنتاجات الحضارية المعروفة في التاريخ القديم، ونسبها إلى شعوب محددة، وربطها بمجالات جغرافية أو بحضارات معينة. ومن ذلك على سبيل المثال إشكالية أصل اختراع الكتابة. فقد توفق المؤرخون والأثريون، بالاستعانة بحزمة من شتى العلوم، في كشف مواطن ظهور أولى إرهاصات الكتابة، من خلال أطوار الكتابة التصويرية في مصر القديمة، والمقطعية في بلاد العراق القديم، ثم الأبجدية بفينيقيا على الساحل اللبناني. لقد أمكن بالفعل رسم مسار أكثر وضوحا لظهور الكتابة وتطورها وانتشارها المجالي إلى أن وصلتنا بالشكل الذي هي عليه في عصرنا الراهن. وبات، بفضل البحث في تيمة الأصل، من الممكن نسب هذا الفتح الحضاري الكبير إلى أصحابه الحقيقيين. وإذا كان الأمر كذلك، بالنسبة لأصل اختراع واستعمال وتطوير الكتابة، فإن الأمر كان مختلفا تماما بالنسبة لأصل جوانب حضارية كثيرة، الشيء الذي أثبت نسبية البحث في الأصل وقصور العلوم الحديثة عن إدراك طبيعة التبادلات الحضارية التي حدثت في العالم القديم. وفي هذا المضمار، يبدو البحث في الأصول العرقية لشعوب العالم القديم ورصد تحركاتها وعلاقتها بالمجال الجغرافي من القضايا الشائكة والمعقدة على مستوى البحث التاريخي. لقد حصل تراكم كبير في هذا الجانب من البحث لجهة محاولة معرفة أصول تطور عدد من الأجناس البشرية، ومعرفة خصائصها، ومحاولة تحديد مجالاتها الأصلية ورصد تحركاتها والمجالات الجغرافية التي تحركت بداخلها. بيد أنه، وكلما توغلنا في البحث في أصول تطور الأجناس البشرية ومعرفة فروعها، كلما ازدادت مساحة المجاهيل، فنحن لا نعرف-على وجه التحديد-كيف ظهرت أولى الأجناس البشرية في شرق إفريقيا، وكيف انتشرت في باقي العالم القديم، وكيف تشكلت المجموعات الإثنية الفرعية وانفردت بخصائصها المميزة، وكيف تطورت عبر الزمن، مثلما لا يمكننا ضبط الهجرات والتدفقات البشرية التي حدثت، خاصة في الفترات الزمنية الموغلة من التاريخ القديم، ونجهل طبيعة الاختلاط البشري الدي حصل في هذه المنطقة أو تلك، وكيف أثر على الخصائص الأنطربلوجية والإثنوغرافية لمختلف المجموعات البشرية. وبناء عليه، يصبح مسعى إقامة تحديدات إثنية معينة نوعا من البحث عن نقاء عرقي مطلق، وهو أمر معقد بالنظر إلى اختلاط الأجناس كما ذكرنا سلفا بفعل الهجرات والحروب واشكال التدافع الذي حدث في القديم. كما أن البحث عن أصل الأجناس البشرية في علاقتها بتحوُّز الأرض قد يستحيل-مع غموض تلك التحركات التي لا نعلم مداها-إلى مجرد تكهنات تفتقر، بالنتيجة، إلى المعايير العلمية الحاسمة. وعلى ضوء ذلك، فإنه لا محل لربط جنس أو مجموعة بشرية معينة بمجال جغرافي ثابت. فإذا نحن استعرضنا نتائج البحث في هذا الجانب لما عثرنا على شعب أصيل بمجال جغرافي محدد، ولذلك تميل الأبحاث التاريخية إلى محاولة إيجاد أصل جغرافي آخر لكل شعب من الشعوب القديمة، نزحت منه لتستوطن مجالات جديدة عُرفت بها خلال فترة زمنية متأخرة. لدرجة يمكن الحديث معها عن قاعدة مضمونها أن كل شعوب العالم القديم ليست أصيلة بمجال جغرافي معين، وأنها قد تحركت من مجالاتها الأصلية واستوطنت مجالات أخرى، بحيث يمكن الاستنتاج بأن الحركة في المجال تمثل مشتركا وقاعدة في التاريخ القديم. فكيف يمكن أن تقنعنا الأبحاث التاريخية بأن جميع الشعوب قد انتقلت من مواطنها الأصلية، وفي نفس الوقت تتحدث عن إنتاجات حضارية أصيلة نقية تنسبها لهذا الشعب أو ذاك؟ إن مراوحة البحث في إشكالية أصل الإنتاجات الحضارية خلال العصر القديم بين النجاح في جوانب معينة، والفشل في أخرى، يدفعنا إلى طرح مفهوم أخر يمكن أن يفسّر إلى حد ما تهافت فرضية الأصل المطلق، ويتعلق الأمر بما نسميه "المشترك الإنساني". المشترك الإنساني في الحضارة البشرية: إن قصور البحث التاريخي عن استكناه أسرار أصول الإنتاجات الحضارية وفهم ألغازها المحيرة خلال التاريخ القديم، وحتمية انزياح وتحوّل البحث في إشكالية الأصل نحو الارتماء في متاهات البحث عن أصل مطلق، والحديث عن نقاء عرقي وحضاري يوجد في أذهاننا كيقينيات ونحاول-دون جدوى في أحايين كثيرة-البرهنة عليه بأكثر ما يمكن من الأدلة المادية. وربطا بما سبق، فإن البحث عن أصل هذا الإنتاج الحضاري أو ذاك لم يفض في نهاية المطاف سوى إلى المزيد من تكريس ترجيحات وافتراضات غير حاسمة وغير نهائية وتحويلها إلى يقينيات. إن هناك فكرة راسخة في أدهان المؤرخين الغربيين بالخصوص مفادها أن كل إنتاج حضاري قد ظهر، وبالضرورة، في حيز جغرافي محدد من طرف مجموعة عرقية معينة في تاريخ معين، ثم انتقل من مجاله الأصيل إلى المجالات الأخرى، وأن مهمة البحث التاريخي تكمن بالذات في معرفة ظروف وطرق انتقاله إلى تلك المجالات المستقبلة. إن البحث عن الأصل في هذه الحالة يتحول إلى بحث بشكل خطي. وهذا المنحى يشترط أن المجموعات البشرية في الأنحاء الأخرى كانت مستهلكة ولم تكن فاعلة في مجرى التاريخ، وأنها كانت فقط بانتظار انبثاق منتوج حضاري أكثر تطورا في المجالات الأخرى من طرف الشعوب المنتجة لكي تسارع إلى تلقفه والاستفادة منه. ولعل هذه النظرات القيمية عن الشعوب القديمة متأتية من تأثر الباحثين الغربيين بتمثلات راهنة لا يمكن أن تنطبق على التاريخ القديم. كما اندرجت ضمن سياقات إيديولوجية تمظهرت في تقسيم شعوب العالم القديم-وكما هو اليوم-إلى شعوب متقدمة وأخرى متخلفة مكونة من بدائيين أو شبه همج، وتفتقد ملكة الإبداع والابتكار وتكتفي بالتقليد الرديء لإنتاجات الشعوب المتفوقة، وهي النظرات التي باتت تشكل للبعض "حواجز نفسية" حقيقية. وتعد حضارة شمال إفريقيا القديم نموذجا للحضارات التي تأثرت دراستها بهذه الأحكام القيمية. إن الذي يتجاهله هؤلاء هو أن مختلف شعوب الأرض قد أنتجت في المجالات التي تواجدت بها عناصر حضارية تعكس تجربتها وتجارب الآخرين، وساهمت بالتالي في تحريك عجلة ما يمكن تسميته بالحضارة في بعدها الإنساني والكوني. وعليه، فالواضح أن الإنتاجات الحضارية قد ظهرت في الواقع في مجالات متعددة وخلال فترات زمنية متفرقة، ومن طرف جماعات وأجناس بشرية مختلفة. وعلى هذا الأساس، فإنه إذا كان هنالك من أصل-كما تأكد ذلك في نواح عدة-فإن الخلاصة المنطقية لمشوار البحث في إشكالية الأصل هي الإقرار بفكرة مؤداها أن هناك مشتركا إنسانيا ظهر بالصيغة التي ظهر بها في مجالات جغرافية وخلال فترات زمنية مختلفة، دون أن يكون في الإمكان نسبه إلى مجال جغرافي أو جنس بشري محدد. فإذا كانت مختلف الشعوب قد أنتجت مظاهر حضارية خاصة بها في مجالاتها استقرارها، فإنه لا يمكن النظر لعدد من عناصر حضارة العالم القديم سوى باعتبارها مشتركا إنسانيا تمخّض عن تجارب حضارية عدة، وأنه لا يمكن الاعتقاد بأن ظهور الإنتاجات الحضارية مرتبط بالضرورة عبر حركات عابرة للجغرافيا في شكل نزوح أو هجرات أو حروب. فلعل هذه الخصوصيات الحضارية هي بالذات ما أعطى ذلك الزخم التراكمي والتطوري للحضارة الإنسانية منذ ما قبل التاريخ ووصولا إلى عصرنا الراهن. حقا أن العالم القديم لم يكن عبارة عن جزر حضارية متباعدة تنقطع بينها مختلف أشكال الصلات، فلعل لكل عصر وسائل تواصلية-بقطع النظر عن تطورها التقني-ساهمت في إخراج المشترك الإنساني بالشكل الذي هو عليه اليوم من الاختلاط والتلاقي والامتزاج الحضاري. على سبيل الختم: مع الإقرار بأن تيمة الأصل تمتلك خاصة بالنسبة للتاريخ القديم جاذبية وتأثيرا كبيرا على اتجاهات المؤرخين والباحثين المعاصرين، ومع الإقرار أيضا بالنتائج المحققة في هذا المضمار، فإنه يتوجب الاعتراف كذلك بنسبية البحث في الأصل البعيد المطلق، سيما وأن هذا الأصل يصبح أكثر هولامية وتهافتا كلما توغلنا في فترات التاريخ القديم بسبب فقر وشح المعطيات. إن هذا الاستنتاج الأولي لا يعني بأي حال إلغاء تيمة الأصل من المقاربة التاريخية، فلا محل لإنكار أن إبداعات إنسانية كثيرة قد انبثقت في مجالات جغرافية من طرف أجناس بشرية محددة. بيد أن إثبات أصولها جميعها يبقى عملية جد معقدة ومحفوفة بمخاطر كثيرة. ولذلك يتعين القبول بنسبية ما تسفر عنه أبحاث من هذا النوع، والحرص على عدم الارتقاء بالفرضيات التي قد تتمخض عنها إلى يقينيات يقع البناء عليها والانطلاق منها لفهم أحداث التاريخ القديم، ما قد يُلحق ضررا بالغا بمصداقية البحوث التاريخية. وبالنتيجة، فإن ما ميز الحضارة الإنسانية في هذه الحقب القديمة من التاريخ هو سمة التنوع والتعدد واختلاف المشارب وتنوع مصادر الفعل والتأثير والتطوير، ما يستوجب منها اليوم إعادة النظر في الكثير من المقولات مثل فرضية الأحادية الحضارية التي قد تستحيل إلى نوع من الشوفينية والانغلاق على ذات حضارية متوهمة نقية ومتفردة. إن الحضارة الإنسانية في محصلة هذا التحليل ليست سوى اختلاط مبدع ومخصّب وغني ساهمت في تشكيله مختلف الشعوب بقدر معلوم، وهذا القدر هو بالذات ما يتوجب أن تتركز عليه الأبحاث التاريخية الرصينة. كلمات مفاتيح: الإنتاج الحضاري-الحضارة-الأصل-الأصل المطلق-التاريخ القديم-الأجناس البشرية-المجالات الجغرافية-المشترك الإنساني. مراجع المقال: - وول ديورانت، قصة الحضارة، الجزء الأول من المجلد الأول، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بيروت(دون تاريخ). -أرنولد تنوينبي، مختصر دراسة التاريخ، المجلد الأول، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2011. -تاريخ الحضارات العام، الجزء الأول، موسوعة بإشراف موريس كروزيه، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة الثانية، 1987. -عبد اللطيف الركيك، الحضارة القرطاجية بين المحلي والمستورد، أطروحة لنيل الدكتوراه في التاريخ القديم وعلم الآثار، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 2007(مرقونة).