منذ الإعلان عن التقرير الأمريكي الخاص بوضع حقوق الإنسان في المغرب لعام 2016، لاحظ الكل كيف قام العديد من الباحثين والسياسيين والإعلاميين بتأويل التقرير عوض تحليله.. والأكيد أن السبب في ذلك هو أن جلهم لم يقرؤوا التقرير في أصله، بل اكتفوا بما جاء في بلاغ وزارتي الداخلية والخارجية المغربتين وبعض وسائل الإعلام. وطبيعي أن تكون النتيجة هي تضليل الرأي العام بمعلومات خاطئة ومغلوطة عن تقرير الخارجية الأمريكية، بدل مده بمعلومات دقيقة ومضبوطة عنه تمكنه من معرفة المعلومة الصحيحة بدل المعلومة الخاطئة عن التقرير لتأمين الرأي العام من أن يكون ضحية التأويل الخاطئ للتقرير بدل التحليل الموضوعي له. والطامة الكبرى أن جل المواطنين لا يعرفون مضمون التقرير وتناقضاته ولم يقرؤوه في أصله كمرجع، بل كل ما يعرفونه عنه هو ما قدمه لهم الخطاب الرسمي وبعض المقالات التي اتخذت بلاغات وزارتي الداخلية والخارجية مرجعين، لذلك اعتقد أن الأساس اليوم ليس هو اتخاذ موقف من التقرير، ولكن الكشف عمّا هو صحيح وعما ما هو خاطئ فيه، وما هو حقيقي وما هو افتراء فيه، احتراما لمبدأ الحق في المعلومة السليمة كحق دستوري. وأمام هيمنة التأويلات للتقرير الأمريكي وندرة تحليله نحاول تقديم هذه المقاربة التي اعتمدت تقرير الخارجية الأمريكية موضوعا للتحليل عبر أربع مقالات سننشرها تباعا. سياق التقرير الأمريكي إعلان وزارة الخارجية الأمريكية عن التقرير يوم 13 أبريل ليس بالبريء، بل إنه جاء في تزامن مع حدثين هامين ودالين: أ- كادت التعديلات التي أدخلتها الولاياتالمتحدة على التقرير الأممي وعلى قرار مجلس الأمن الدولي أن تعيد كل شيء إلى الدرجة الصفرية في ملف الصحراء، لولا حكمة بعض الدول التي نبهت الإدارة الأمريكية إلى خطورة قراراتها المفاجئة، ومدى تأثيرها على السلم والأمن الدوليين، وعلى مستقبل الشراكة الغربية مع المغرب كحليف إستراتيجي . ب- تزامنه مع ما جاء في التوصية الثالثة لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2285 لسنة 2016 التي نصت بالحرف: "يطلب من الأمين العام أن يقدم إحاطة إلى المجلس في غضون 90 يوما عما إذا كانت البعثة قد عادت إلى أداء وظائفها كاملة، ويعرب عن عزمه في حال عدم أداء البعثة لكامل وظائفها، على أن ينظر في أفضل السبل لتيسير تحقيق هذا الهدف". والغريب في الأمر أن التقرير الأمريكي صدر يوم 13 أبريل 2016، لكن وزارتي الداخلية والخارجية المغربيتين لم يردا عليه إلا بعد مضي أكثر من شهر على إصداره. وهنا لا نتساءل أين هي الحكامة الزمانية والمنهجية الاستباقية للمؤسسات وللأشخاص المسؤولين عن تدبير ملف الصحراء.. تقديم التقرير يتكون من 32 صفحة ومن 2752 كلمة، ويتشكل من ملخص تنفيذي وسبعة أقسام: 1- احترام كرامة الشخص. 2- احترام الحريات المدنية. 3- حرية المشاركة في العملية السياسية. 4- الفساد والافتقار إلى الشفافية في الحكومة. 5- موقف الحكومة من التحقيقات الدولية وغير الحكومية في الانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان. 6- التمييز والانتهاكات الاجتماعية والاتجار بالأشخاص. 7- حقوق العمال. وكل قسم يتكون من عدة عناوين فرعية مفصلة مست موقع المؤسسة الملكية في النظام السياسي المغربي- مبدأ فصل السلط- الدستور الجديد- الحريات- الفساد- خرق حقوق الإنسان- فساد العدل والأمن – التمييز العنصري- هيمنة الملكية على باقي المؤسسات... الخ. ملاحظات عامة حول شكل التقرير أ- تقرير بدون أي مصدر أو مرجع موثق: المثير في التقرير هو عدم تعرضه لأي مصدر أو مرجع له طابع علمي اعتمد عليه، مما جعله يسقط عن نفسه صفة التقرير الموضوعي العلمي المبني في أفكاره وأحكامه على مصادر ومراجع لها شرعيتها ومشروعيتها العلمية والأخلاقية، سواء كانت مراكز بحث أو دراسات ميدانية أو استطلاعات رأي. ويكفي غياب ضبط المصادر والمراجع في التقرير ليفقده أي قيمة علمية أو أي تحليل موضوعي يحتدى به؛ مما جعله يعتمد على ادعاءات منظمات غير حكومية معينة ومختارة بعناية تابعة لقوى وتنفذ أجندة خارجية وداخلية مخدومة. ب- تقرير فاقد للقواعد المتعارف عليها دوليا في صياغة التقارير الدولية: يدخل تقرير الخارجية الأمريكية ضمن فئة التقارير السنوية الأمريكية، والتي تمس مواضيع بالغة الأهمية والحساسية لعدد من الدول. لكن المتأمل في شكله ومضامينه يلاحظ خرق هذا التقرير أهم القواعد في إعداد التقارير الدولية من حيث مقاربة المواضيع التي يتناولها، إذ إنه صيغ وفق معايير تخدم الأجندات الخارجية الأمريكية بلغة مطاطية ومناورة وخادعة وإنشائية، أفقدت التقرير كل قيمة موضوعية أو علمية، لأن قوة التقارير الدولية ومصداقيتها تنبني على مدى دقة المعلومات الموثقة ومصداقيتها والحياد لغويا ومنهجيا في عرض المعلومات ومقاربتها وهذا ما يفتقده التقرير الأمريكي الخاص بوضع حقوق الإنسان في المغرب لعام 2015، إن على مستوى الدقة في المعلومات أو على مستوى الموضوعية في التحليل من حيث رصد ومراقبة وتتبع الأحداث وصياغتها في تقرير ملتزم بالمعايير الدولية. ج- تقرير متناقض مع عدة تقارير أمريكية ودولية المطلع على تقرير الخارجية الأمريكية، خصوصا في مجال حقوق الإنسان، يلاحظ وقوعه في تناقضات مع تقارير الأمين العام للأمم المتحدة وقرارات مجالس الأمن الدولي لسنوات 2013 و2014 و2015 و2016، التي تشيد بالتحسن النسبي لحقوق الإنسان بالمغرب؛ ويمكن أن نبرهن على ذلك بدليل واحد من بين مئات الدلائل هو تناقض تقرير الخارجية الأمريكية مع تقرير مفوضية الأممالمتحدة لحقوق الإنسان إلى الصحراء شهر أبريل 2015. لكن المثير للجدل صمت تقرير الخارجية الأمريكية عن إشادات المجتمع الدولي، بما فيها إشادات الإدارة الأمريكية وكاتب الدولة في الخارجية الأمريكية ذاته حول دور المجلس الوطني لحقوق الإنسان ولجانه الجهوية في العمل النوعي الذي يقومان به في حماية حقوق الإنسان وحريات الأفراد والجماعات، والنهوض بها لتؤكد التزامات المملكة المغربية الدولية وجهودها لضمان ولترسيخ قيم المواطنة الإنسانية والعدل والمساواة، وأيضا صمته عن تقرير المقررة الخاصة المعنية بالاتجار بالأشخاص، وبخاصة النساء والأطفال 2013، وتقرير المفوضة نافي بيلاي سنة 2014، وتقرير اللجنة الدولية للحقوقيين، خلال الدورة 28 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة 2015. د-التقرير من مقاربات أمريكية شجب كثير من المسؤولين الكبار الأمريكيين شكل ومضمون تقرير الخارجية الأمريكية، نذكر منهم نائب وزير الدفاع الأمريكي السابق، دوفزاكهايم، الذي وصف التقرير في مقال تحليلي نشر في مجلة (فورين بوليسي) ب"النفاق"، وب"غير المنصف للدبلوماسية الأمريكية". بل إنه لم يفهم كيف خصص التقرير جزءا مفصلا عن المغرب أكثر مما خصصه لوضعية حقوق الإنسان في إيران وكوبا. السفير الأمريكي السابق بالرباط إدوارد غابرييل صرح بأن التقرير الأخير لوزارة الخارجية الأمريكية حول وضعية حقوق الإنسان بالمغرب "يتضمن بشكل جلي معلومات خاطئة يتعين تصحيحيها وتوضيحها". وقال الدبلوماسي الأمريكي السابق إنه "من الجلي أن التقرير المشار إليه يعتمد على مصادر ومعلومات خاطئة يتعين تصحيحها وتوضيحها". بيتر فام، مدير مركز "أفريكاسانتر"، التابع لمجموعة التفكير الأمريكية أطلانتيك كاونسيل، وصف تقرير الأخير للخارجية الأمريكية حول وضعية حقوق الإنسان بالمغرب ب"زلات لسانية"، وب"التقرير المخدوم". وفي التوجه نفسه قالت المجلة الأمريكية "ناشيونال إنتريست"، المتخصصة في القضايا الجيو-استراتيجية، إن التقرير الأخير للخارجية الأمريكية حول وضعية حقوق الإنسان بالمغرب نابع من "نية سيئة سافرة" للإدارة الأمريكية. أما دوايت بوش، السفير الأمريكي الحالي بالمغرب، فقد أكد على الخطوات الإيجابية التي اتخذ المغرب نحو تعزيز ثقافة حقوق الإنسان في عام 2014، واعتماد الحكومة المغربية البروتوكول الاختياري لاتفاقية الأممالمتحدة لمناهضة التعذيب. ج-أبعاد وأهداف التقرير الأمريكي التقرير صادر عن دولة قوية متعجرفة باسم القانون الدولي ومتحكمة في القرارات الإقليمية وفي المؤسسات الدولية، بما فيها هيئة الأممالمتحدة ومجلس الأمن الدولي، ولها سياساتها وأجندتها الجيوسياسية في كل بقاع العالم. وطبيعي أن تستغل الولاياتالمتحدةالأمريكية التقارير التي تصدرها عن الدول لخدمة أجندتها السياسية الخارجية، إما كآليات ضغط وكآليات ابتزاز، أو البحث عن بعض التوازنات..وهذا هو سر حربائية السياسة الخارجية الأمريكية التي لا تفهم إلا لغة المصالح وإخضاع السياسة الخارجية الأمريكية لضغوطات اللوبيات والشركات الاقتصادية الكبرى الأمريكية. ومن هذه الزاوية يجب أن ينظر إلى تقرير الخارجية الأمريكية حول المغرب بكونه صيغ تحت ضغوطات الاتفاقيات الضخمة التي أبرمت بين شركات أمريكية والجمهورية الجزائرية، بواسطتها حلت محل الشركات النرويجية التي تم ترحيلها بعد القصف بالصواريخ لحقول النفط بالجزائر السنة الفارطة، وانتقام الإدارة الأمريكية من ردود الفعل المغربية القوية تجاه الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الخاص، واتجاه الموقف الأمريكي بمجلس الأمن الدولي والزيارات الأخيرة الناجحة لجلالة الملك إلى الصين وروسيا، وخطابه بمجلس دول التعاون الخليجي الذي أشار فيه إلى مخطط تقسيمي يستهدف العالم العربي والإسلامي من تخطيط غربي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية. وعليه، يبدو أن إدارة الرئيس الأمريكي الحالي قررت جعل ما يسمى "الفوضى الخلاقة" خطة إستراتيجية للتعامل مع دول العالم العربي والإسلامي، معتمدة في ذلك على تقارير "مخدومة" تحت عناوين كبرى خادعة ومتعددة، من بينها: حقوق الإنسان- الحرية الفردية- الديمقراطية- حقوق الأقليات- حقوق المرأة الخ كآليات لخدمة أجندتها ومصالحها الجيوسياسية والاقتصادية. تقرير يعري محدودية تأثير المجلس الوطني لحقوق الإنسان عرى تقرير الخارجية الأمريكية محدودية تأثير المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي لم يكن في مستوى الحدث. والغريب في الأمر هو أنه بعد صمته عن التعقيب على تقرير الخارجية الأمريكية خرج بعض مسؤوليه بخطاب سياسي كرر ما جاء في بلاغ وزارة الداخلية المغربية، بعيدا عن خطاب الثقافة الحقوقية. وهنا نتساءل هل يقوم المجلس الوطني لحقوق الإنسان بمهامه وفق المادة 5 التي تقول: "يتولى رئيس المجلس إطلاع الرأي العام والمنظمات والهيئات الوطنية والدولية المعنية بحقوق الإنسان على مضامين هذا التقرير"؟ وهل فعلا اطلعت المنظمات الحقوقية الرسمية وغير الرسمية الأمريكية على التقارير الذي يعدها؟ هل يؤدي مهامه وفق الإمكانيات المادية المخصصة له؟ ما علاقاته مع المنظمات غير الحكومية والحكومية بالولاياتالمتحدةالأمريكية؟ وهل يفهم الصمت الممنهج للمجلس الوطني لحقوق الإنسان كضوء أخضر للرد على التقرير الأمريكي؟. شخصيا أعتقد أن تقرير الخارجية الأمريكية يفرض على الدولة المغربية أن تفتح واجهة دولية حقوقية مستقلة عن الحكومة بمجلس وطني لحقوق الإنسان مخالف تماما للمجلس الحالي شكلا ومضمونا، لمواجهة التحديات الخارجية للمغرب في المجال الحقوقي التي لن تتوقف مع تقرير الخارجية الأمريكية لسنة 2016. بصفة عامة نقول إن موضوع تقرير الخارجية الأمريكية حول المغرب هو تقرير حكومي تعده الخارجية الأمريكية وفق مساطر القانون الأمريكي، ويقدم سنويا إلى كل من رئيس مجلس النواب ولجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وعلى أساسه تحدد السياسة الأمريكية الخارجية مساعداتها المالية للدول في مجال حقوق الإنسان . ** يتبع** *أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال