من يقف على أعتاب الحاضر ويولي وجهه لماضي المغرب واستزاد بما فيه من مجريات حول مختلف التنظيمات السياسية والاجتماعية خلص إلى نتيجة نعتقدها شاملة هي الجمود في وعلى ما في التربية الأولية، والمقصود بها مؤسسات: البيت، القبيلة، الزاوية، المخزن، آبيا فسح المجال للدولة مفهوما وتجسيدا، وحتى إذا استعمل البعض هذا المفهوم أدرك في النهاية أنها ليست إلا دولة المخزن. هذا مؤدى كلام المؤرخين وليس الأراخين. أن يحكم المرء نفسه بنفسه أمر بديهي، أن يحكمه غيره فردا كان أم جماعة، فذاك يحتاج إلى تبرير أو تأويل، من يحكم نفسه بنفسه فهو حر عاقل محترس. من يحكمه غيره خانع قاصر، عاقل بعقل غيره وفاضل بفضل غيره، فهو بمثابة الحصان يلجمه الفارس والجمل يحدو به الحادي والقطيع يحرسه الراعي، وما والى ذلك من تشبيهات القاموس السياسي وهي التي يزخر بها نمط الاستبداد الشرقي كما فصل فيه المستشرقون القول. إذ حفل تاريخ المجتمع المغربي بالصراع المرير مع المخزن، فإنه عانى أكثر من قهر وجبروت التنظيمات الاجتماعية التي نهلت من معين سياسة المخزن نفسه بل استفادت من الصراع بين الطرفين لتنصب نفسها وسطا بينهما من تلقاء نفسها وغصبا لحق الآخرين في الدفاع عن حقوقهم. وهو ما أسهم في نشأة مجتمع الموالاة، كل فرد يبحت عمن يتولاه ومستعد أن يكون مملوكا لمالك وعبدا لسيد وهو لا يفتأ يتحدث عن الحرية والديمقراطية وألفاظ أخرى تقوم مقامهما. عانى المغاربة من سلطة الأب في البيت، من قهر شيخ القبيلة، من ظلم زعيم الزاوية، من عسف سلطان السلطنة، لكن التنظيم الذي يعنينا هنا هو النقابات بالمعنى المتعارف عليه في صفوف الأجراء والحاصلين على الوظيف قارين أو مياومين، ومعلوم أن الفكر النقابي عندنا كما في عموم العالم المتخلف مستورد من الغرب إذ ولد في أحضان المدنية الغربية وفي سياق تاريخي معلوم ليس أوان فصل القول فيه هاهنا إلا ما يجعل من ضرورة الإشارة إلى أن النقابة في الأصل فكر وسياسة عقل وإعقال أصله رد فعل ضد البؤس الاجتماعي الناجم عن استغلال الطبقة البورجوازية بآلاتها الحديثة ورأسمالها الضخم وغير المحدود. أما في المغرب فإن النقابة لم تنشأ لا من هذا ولا من ذاك، فالدولة عندنا دولة القلة والاقتصاد اقتصاد كفاف لم ينتج شروط ظهور طبقة تملك وطبقة تتبع، كل الثروة هي للسلطان ووحده له الحق في العطاء والمنع، فهو أبو الجميع، وكذا يفعل الأب، يعطف ويقسو، يظلم تارة ويرد الظلم تارة أخرى وهو على وعي بذلك تكريسا لسلطة مكتسبة. ومعنى هذا الكلام أن النقابات في المغرب ولدت ولادة غير شرعية، وما يعوزها إلى اليوم فهو بالضبط تلك الشرعية، النقابات عندنا لا تدافع عن الحق بالحق بل تخلق الفوضى ومنها تعتاش، وهذا الاعتياش هو كسب يؤخذ من يد الغير بالاقتدار عليه، وهو غير المعاش الطبيعي كما يفعل المعلم في فصله والفلاح في حقله والصانع في مشغله...(راجع مقدمة عبر ابن خلدون في فصل قريب من هذا اللفظ). كيف يمكن تجسيد هذا الكلام واقعيا؟ ليس هناك في جل ميادين العمل أكثر من قطاع التعليم تجسيدا للفوضى النقابية التي أشرنا إليها، الأصل في ذلك معروف على الأقل عند عشيرة المربين باختلاف مراتبهم وما يسند إليهم من مهام، وبحكم انتمائنا لهذه العشيرة فلا يخفى عنا ما تقدم عليه تلك النقابات من سلوكات مشينة وأفعال مرذولة ما ظهر منها وما بطن، أولها ولادة تنظيم نقابي والتي تنطلق عادة من مقهى أو من ملهى ليلي بين زمرة من الأشخاص مستعدون أولا لخرق كل الاخلاق المؤسسة لحرفة التعليم ومبتدؤها "أداء الواجب داخل الفصل"، فكل ما نعرفه عن النقابي في التعليم أنه متخلي عن ذلك الواجب وحتى إذا حضر إلى الفصل فحضوره لا يتعدى حضورا جسديا، ولو قمنا بدراسة حول المستوى المعرفي للأقسام التي تسند إلى هؤلاء لوجدناه مستوى متدنيا جدا، وأنا شاهد على هذا، بل إن أول مسعى يسعى إليه النقابي وهو لايزال في طور مشروع ما سيصل إليه هو التخلص من الفصل، أي البحث عما يسمى زيفا ب "التفرغ"، فعلا سلوك خسيس ينم عن عقلية باردة وفكر أجوف، وحين يحصل على مسعاه يكون كل همه بعد ذلك هو التنقل بين المقاهي آناء النهار وما يطول من الليل. ثانيا النقابي في قطاع التعليم موكول إليه التفنن في الاستقطاب وليس إلا شخصا ينوب عن الزعيم ويبحث عن المريدين ليس بالتسويق للقضية التي يدافع عنها بل بنزع الشرعية عن غريمه في تنظيم نقابي آخر، فالاشتراكي ضد الاسلامي واليميني ضد المحافظ ...والمستغرب من كل ذلك أن لا أحدا من هؤلاء سبق له أن اطلع على اديولوجية التيار الذي يدافع عنه، ومن هذا نأتي إلى الصفة الثالثة للنقابي في قطاع التعليم وهو انعدام الجسارة في النقاش الفكري، فهو وفقط شخص يكسب من القضايا الطارئة ولا يتوانى عن استعمال الألفاظ السوقيه في حديثه عنها، رابعا النقابات التعليمية تعمل بطريقة انقسامية، عن غير وعي بها، لأنها استوفت آجال وجودها بفعل تقادم خطابها الذي غذا متجاوزا، معنى هذا الكلام أن الصراع في الأدنى يتحول إلى اتحاد في الأعلى، لأن النقابات استشعرت ضعفها، ويجب أن ندرك نحن معشر البروليتاريا التعليمية أن الصراع هو وحده من يبقي على وجود النقابات وليس تمهيدا للقضاء عليها، الأمر الذي ينبغي أن يحصل الآن أكثر من أي وقت مضى، وأن يتم البث في الاصلاح الذي ينبغي أن يكون بالضرورة إصلاحا فكريا وثقافيا، وطبيعي أن النقابات سترى في هذا الاصلاح تحولا يهدد كيانها وسيعترضون على كل مبادرة تحمل طابع التجديد لأن فكرهم استقر على التعايش مع التقليد المؤسس له من طرف السلطة الحاكمة، كذا الأمر في الدين والاعتقاد والسياسة والانتاج، تقليد وتقليد للتقليد. جامع القول، إذ المقام لا يسمح بمزيد تفصيل، والذي وللأسف لن يكون إلا تفصيلا في سلبيات نقابات فرضت علينا وعلينا أن نرفضها، فإن الثابت اليوم هو أن النقابات في التعليم لم تعد تصلح لأي شيء، انتهى عهدها بعد أن اغتنى زعماؤها من بؤس من تولوهم، وشخصيا لن أنخرط في أي تنظيم نقابي ولن أستجيب لدعوة إضراب يحاول فرضها علينا، فكيف لتنظيم أن يدعو إلى الديمقراطية والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص وإحقاق حق، وهو لا يلتزم بالحد الأدنى من هذا وغيره؟ أنظروا إلى زوجات النقابيين وأزواج النقابيات وذرياتهم من بعدهم، وانظروا إلى أملاكهم الثابتة والمتحركة...هؤلاء ليسوا نقابيون هؤلاء فهود من ورق...حاملو ايديولوجيات مهزومة.