قبيل انطلاق فعاليات أي امتحان إشهادي في المستويين الإعدادي والثانوي يتقاطر التلاميذ على محلات النسخ، مكونين طوابير طويلة مثيرة للانتباه، والغرض الواحد الذي لا ثاني له عندهم جميعا هو جمع عدة كافية من الأوراق المختلفة الأشكال والأحجام عساها تنفس كربتهم، وهم في حجرة الامتحان، حيث يرون فيها مخلصهم من عذاب أسئلة لا ترحم ضعفهم، ولا طاقة لهم بفك شفرتها، دون الاستعانة بها للحصول على الشهادة المرجوة بسلام، وبدونها يكونون بلا حول ولا قوة، كالطائر المقصوص الجناح، وقد يترك أحدهم قاعة الامتحان على التو إن حيل بينه وبينها، وقد يقدم، من فرط اتكائه عليها وثقته في بركتها، على حماقات وتصرفات غير محسوبة في حق المجرد (بكسر الراء المشددة)، لأنه في نظره حال بينه وبين عصاه التي يتوكأ عليها ليقضي بها مأرب النجاح، وهو يعلم أنه بدونها سيسقط أرضا مثل الجدار المتهالك، وحينئذ لن يجد غير ساحب أوراق اعتماده الغشية لينهار عليه، ويحمله مسؤولية سقوطه وإخفاقه في الامتحان. وهو ما يمكن أن نسميه بالاحتلاب النفسي الخادع الذي يتوهم التلميذ من خلاله أنه يستمد تغذيته المعرفية من هذه الأوراق، لمواجهة ما يعتبره جبروت الامتحان، دون أن يعي أنه لا يعدو أن يكون مقلدا للطفل الرضيع الذي يخدع نفسه بامتصاص الحليب وهو يدس أصابع يده في فمه. إن ظاهرة تدجج تلامذتنا بأوراق الغش والتيمن بمحلات النسخ ظاهرة مرضية تعبر عن توازن نفسي مفقود، وثقة لا تتجاوز الحضيض لتلميذ فارغ لم يستفد شيئا من سنوات تمدرس طوال، وأرقى ما تعلمه من مهارات هو نقل المعارف، كما اتفق، من وريقات مدسوسة في مختلف مناطق الجسم وفرشها على سطح ورقة الامتحان، ليصبح النقل غاية في حد ذاته، يغيب معه التساؤل حول جدوى ما نقل، ومدى صوابه، وفق واقع مرير يزيد من فاعلية صنع الغباء، وينحو بمدرستنا نحو التقدم بخطوات متسارعة إلى هاوية المجهول. إن فعل تلامذتنا وسلوكهم في تولية وجوههم صوب محلات النسخ والتزود بالأوراق يشبه إلى حد كبير ظاهرة إقبال العجائز في القرى النائية على الأضرحة كلما ألم بهن طارئ من الطوارئ، فبسبب مرض قد يصيبهن مثلا، ونتيجة لضيق ذات أيديهن، وقصر حالها عن اللجوء إلى الطبيب وشراء الأدوية، يلجأن إلى الأضرحة ويتمسحن بها، ويأخذن معهن التمائم و "النفولة"، وكلهن أمل في أنها ستذهب عنهن كيد المرض، وتخلصهن من عذابه الشديد..، كذلك دأب تلامذتنا، إذ بسبب ضيق ذات أيديهم المعرفي، وانسداد أفق التحصيل الدراسي في أعينهم، وقصور عقولهم عن استيعاب ما تلقوه من معارف، وما اكتسبوه من مهارات، يفرون فرادى وزمرا صوب "أضرحة الفوطوكوبي" التي يعرف القائمون عليها المطلوب منهم جيدا، فيعدون بتفان وجدية كبيرة التمائم المناسبة لكل مادة على حدة، مع التوصية بطريقة الاستعمال، والتنصيص على فوائدها الجمة التي تغري السامعين، فتجعل الحاضر يخبر الغائب ليشهد منافع له في موسم الحج إلى "للا الفوطوكوبي" التي صار التبرك بها لدى الأغلبية الساحقة من تلامذتنا فرض عين لا يجوز تجاوز أعتاب قاعات الامتحان قبل أدائه بالتعريج عليها. إنه وفي الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات بوجوب إغلاق ضريح "بويا عمر"، يجب كذلك أن يلتفت مسؤولونا إلى وجوب إغلاق "أضرحة الفوطوكوبي"، ومعاقبة من يبيعون الوهم لتلاميذنا، ويحتجزونهم بأوراق تجعلهم، وهم في قاعة الامتحان، في وضع الفاقد لوعيه، الذي يؤدي بأمانة التوصية المباركة للقائمين عليها، دون أن تفلح به "جذبته" في استكناه المطلوب منه ومساءلته، وأظن أن محاربة هؤلاء يجب أن ترقى إلى مستوى محاربة ناشري الأفكار التخريبية والإرهابية، لأن الجريمة هنا جنائية تضرب الأمن التربوي في الصميم، وتزيد جرح منظومتنا التعليمية نزيفا، فكلنا آباء ومربين ومهتمين بالشأن التعليمي نريد استرجاع تلاميذنا إلى حضنهم المعرفي وتخليصهم من هذا الدجل الذي أصبح يمارس في واضحة النهار أمام أنظار الجميع، دون أن يجد من يوقف مقترفيه من أعداء الطفولة والوطن عند حدهم.