هذه مناقشة لطيفة لمقال: (عن التطرف والإرهاب و"الداعشية" بالمغرب) لكاتبه محمد إنفي. بداية أقول إن المقال متناقض، يضرب بعضه بعضا، ويكذب أسفله أعلاه، ويسخر وسطه من أوله وآخره، كله اتهام وتدليس وتزوير وتناقض.
1 أشاد بالأجهزة الأمنية، قائلا: (قد يستغرب البعض من كثرة الخلايا الإرهابية ... التي يتم، من حسن الحظ، تفكيكها قبل أن تمر إلى تنفيذ مخططها الإجرامي؛ وذلك بفضل الخطة الاستباقية لأجهزة الأمن المختصة). ولكنه في آخر المقال نسي الإشادة الطريفة فأكد لنا أنه: (قد وجد هذا الفكر المتطرف ترحيبا وتشجيعا لدى الدولة "المخزنية" التي احتضنته لتواجه به المد اليساري الثوري وتفكيره الديمقراطي الحداثي وتضعف به تنظيماته التي كانت متجذرة في المجتمع).
2 ثم إن هذا المجتمع الذي تجذرت فيه هذه التنظيمات الديمقراطية والحداثية التي تنشر فيه النور والعلم تحول بقدرة قادر بين عشية وضحاها إلى مجتمع (يعشش ويعشعش الفكر المتطرف والمنغلق في الكثير من مؤسساته المجتمعية، بدءا من الأسرة إلى المدرسة فالمسجد، مرورا بجمعيات المجتمع المدني التي تتخذ التربية الدينية والوظيفة الإحسانية والاجتماعية قناعا للتغطية على أهدافها الإيديولوجية والسياسية.) علما أن هذا المجتمع المتطرف شهد له الكاتب بأنه (مجتمع متميز، من جهة، بتعدديته الثقافية والفكرية واللغوية... ومن جهة أخرى، بتسامحه وانفتاحه على كل التيارات الفكرية والثقافية والسياسية..). ولكن الأهداف المبيتة تبعث على هذه الخلطة العجيبة.
3 وإن تعجب فعجب أن يعلن إنسان إلحاده ويفتخر به ويصف خصومه بالإرهاب والتطرف والداعشية والتخلف ثم إذا وصم هو بالإلحاد والانحلال والميوعة انتفض وأقام الدنيا ولم يقعدها واتهم غريمه ( بثقافة الانغلاق والتحجر الفكري والعقدي وتقسيم المجتمع إلى فسطاطين: فسطاط الإيمان وفسطاط الردة والكفر والإلحاد).
أليس جديرا بهذا الملحد أن يحترم نفسه ويتحمل مسؤولية اختياره ويدافع عنها بشرف إن كان له شرف، أم ارتزق به وملأ به أحشاءه؟
4 ومن الطريف أن يؤصل الكاتب للفسطاطين الشريفين بالآية التاسعة والعشرين من سورة الكهف: (ذلك أن قتل المرتد يتعارض مع النص القرآني الصريح، لفظا ومعنى، "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر").
والحديث الذي صرح بذلك: (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري، ما محله من الإعراب؟ أم الكاتب قرآني؟ وما رأيه في الآيات التي تأمر بقتل أئمة الكفر؟: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم يهتدون) سورة براءة، الآية: 12 أم تراه يؤمن ببعض ويكفر ببعض؟
والذي أريد لفت الانتباه إليه هو أن يبتعد عن التاصيل الذي ليس من أهله، فلا الآية الأولى تسعفه، ولا الآية الثانية تسعف خصومه، فالقرآن أسمى وأعلى وأطهر من أن يتلاعب به، وآيه الكريمة تقرأ في سياقها العام والصحيح بإخلاص وتدبر. أما الاجتزاء واقتطاعها من سياقها فيورد المجتزئ المقتطع موارد الهلاك.
5 وطريف أن يعلن مخلوق يرى نفسه حداثيا مثقفا مهتما بما يدور في الساحة الدولية في عصر الفضائيات والانترنت والمعلومات المتوفرة بضغطة زر أن يعلن أن هذه (الحركات الدعوية لها ارتباطات دولية، تمويلية وإيديولوجية وسياسية، كحركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية).
ما هي هذه الدول التي ترعى الإسلام السياسي، وتسعى في تمهيد الطريق أمامه والتمكين له؟ وغير خاف أن الأغبياء قبل الأذكياء يعرفون أن الإسلام السياسي محارب سرا وعلانية من قبل الأعداء التقليديين والأصدقاء المفترضين. والعكس هو الصحيح، أي أن الارتباطات الدولية والتمويلية والايديولوجية لا يتمتع بخيراتها وبركاتها إلا الأحزاب اليسارية والحداثية المزعومة، ولكن كما قيل: "رمتني بدائها وانسلت"!
وليس يصح في الأذهان شيء == إذا احتاج النهار إلى دليل
والذي لا شك فيه أن العالم الإسلامي لن يحكمه إلا أحد تيارين: تيار إسلامي إذا كانت الديمقراطية هي المقترحة، لأن شعوبها مسلمة وراثة وفطرة، أو تيار عسكري إذا كانت البندقية هي البديل كما وقع خلال القرن الماضي، ولكن يبدو أن الشعوب تمردت على هذا الأسلوب المهين، والدليل على ذلك ما وقع في سورية وما تبرهن عليه الأيام في مصر، ولذلك تعمل الدوائر الغربية ليل نهار لترويض المارد المنفلت من القمقم وتدجينه.
أما ما يسمى بالأحزاب الحداثية والديمقراطية والليبرالية فلا رصيد لها في هذه الأرض ولا جذور لها، على أن ديمقراطيتها تنعكس عليها سلبا، ويستفيد منها الإسلام السياسي كما سبق، وهذا ما لن يسمح به العم سام، لأنه يريدها شعوبا مستهلكة لا منتجة، وشعوبا تابعة لا متبوعة، وشعوبا مهانة لا شريفة.
ما العمل وقد انفلت المارد؟ مزيدمن الترويض والتشويه والتزوير والاتهام، لعل الأيام الحبلى تتمخض عن أحزاب إسلامية تتغدى بالخنزير وتستعين على هضمه بالويسكي، ثم تغدو على المسجد لأداء ما افترض ربها عليها، آنذاك يجود عليها الغرب بشهادة الحياة والرشد والمشاركة في الحياة السياسية لبلادها!! وهذا ما يؤكده هذا المقال الذي نناقشه، فقد وزع الاتهامات حتى شملت الحجر والمدر: (لكن، وبكل أسف، يبدو أن مؤسساتنا الدينية الرسمية (ونقصد هنا المجالس العلمية) ليست محصنة ضد التطرف والغلو والانغلاق... مما يجعلها، أو على الأقل البعض منها، تبتعد عن السماحة الإسلامية وعن المجادلة بالحسنى. ويعود هذا الأمر إما لجهل أو تجاهل معطيات الواقع وتعقيداته، وإما لتغلغل الفكر المتشدد الدخيل على ثقافتنا الدينية، أو هُما معا).
6 لا يستنكف الكاتب أن يلبس لبوس الواعظين الغيورين على أعواد المنابر خشية ان ينسفها الإرهاب المدمر الهابط عليها من الفضائيات والمتسلل إليها من المواقع الالكترونية والخارج من تحتها: (وإذا أضفنا إلى كل هؤلاء ما يشكله بعض خطباء الجمعة من تهديد للأمن الروحي للمصلين بسبب بعض المواقف غير المحسوبة وبعض الآراء المتطرفة، ندرك ما يتهدد مجتمعنا في بنائه المؤسساتي وفي تعدديته وانفتاحه وفي استثنائه وأمنه واستقراره. وقد سبق لي أن تعرضت لخطورة خطبة الجمعة (بالمفهوم الإيجابي والسلبي) باعتبار وظيفتها الرسمية والمجتمعية؛ وذلك في مقالات، كان الدافع لكتابتها هو الدفاع عن قدسية بيوت الله وحرمة منبر الجمعة، بعد أن تطاول البعض على هذه الحرمة وأعطى لنفسه الحق في الخوض في أمور خلافية أو سياسية، من غير المقبول الخوض فيها على منابر المساجد؛ لا سيما وقد صدر ظهير يمنع القيمين الدينين من ممارسة السياسة).
ترى ما هي الصفة التي كتبت بها هذه المقالات؟ أهي الصفة الدينية النقية أو الإرهابية والتطرفية والداعشية أم الصفة الحداثية والتنويرية أو الانبطاحية والتغريبية؟ إذا كانت الأولى فلن يزيد على الخطباء المتطاولين على قدسية بيوت الله وحرمة منبر الجمعة تطرفا وإرهابا ودعشنة، وإن كانت الأخرى فليت شعري ما مدى غيرة الحداثي الذي يدافع عن الإلحاد والعهر والفجور ما مدى غيرته على قدسية بيوت الله وحرمة منبر الجمعة؟! ولكن كما قال الأول:
لقد هزلت حتى بدا من هزالها == كلاها وحتى سامها كل مفلس
7 ثم إن الطامة الكبرى أن المقال يشي أن الدنيا كلها تعيش في أمن وسلام إلا العالم العربي، ومنه بلدنا الذي ابتلي بالحركات الإسلامية: (ثم إنني لا أعتقد أن هناك متتبعا للحركات الإسلامية ببلادنا وتاريخها، سيجادل في كون "السوسة" التي تنخر جسم مجتمعنا قد أتتنا من المشرق إما تحت عباءة الوهابية أو الفكر الإخواني أو السلفية الجهادية).
وما رأيك في ما يرتكبه البوذيون في حق الروهينغا؟ وما يرتكبه الهندوس في حق المسلمين الهنود؟ وما يرتكبه الغربيون في حق الجاليات المسلمة خاصة؟ والأمريكيون البيض في حق السود؟ والشيعة على اختلاف مذاهبها في حق السنة؟ وغير هذا مما يعصف بالكرة الأرضية؟ أكل هذا استوردوه (إما تحت عباءة الوهابية أو الفكر الإخواني أو السلفية الجهادية)؟
أليس هذا تفكيرا أعوج؟ يا رجل إن الإرهاب أو التطرف بالتعبير السياسي أو الصراع والتدافع بالتعبير القرآني جزء أصيل من الطبيعة البشرية وسنة إلهية في هذا الكون، ولكن شتان بين من يصارع ويدافع لنشر الصلاح ومحاربة الفساد، وبين من يصارع ويدافع لنشر الفساد وللسيطرة والهيمنة والاستئثار بثروات الأرض!
على أن الإرهاب يولده الإرهاب، فإرهاب هذه الحركات سببه الحقيقي هو الإرهاب الذي يمارسه العلمانيون أحلاس المقاهي الذين يريدون سلخ هذه الأمة من تراثها وحضارتها وثقافتها ودينها، وأغلبهم يطارد البغايا في أزقة باريس ولندن وغيرهما من العواصم الغربية سنوات مديدة، ثم يعود، يريد أن يحتجن مراكز القيادة في الأمة، ليفرض عليها بالحديد والنار ما أملي عليه هناك.
8 وهكذا تفرغ من قراءة المقال، والسؤال المتلحح عليك هو: ما الهدف الذي يرمي الكاتب إلى تحقيقه؟ وما النتيجة التي خلص إليها؟ فلا تجد إلا الحيرة إن كنت حسن الظن بالكاتب، والغثيان إن كنت خبيرا بالتنوير والديمقراطية والحداثة التي يبدئ الكاتب ويعيد في التغني بها وبأمجادها والتي رسمت للعالم العربي من قبل الدوائر العتيدة التي تخطط لتكريس التبعية والهيمنة، لأن كل ما يدندن الكاتب حوله هو أن يتهم الإسلام السياسي بالتطرف والإرهاب والداعشية، فحشر لذلك من التناقض والاتهام والتزوير ما أطلعناك عليه قال: (ولن يخالفني في الرأي إلا من كان تحليله غير موضوعي إن قلت بأن دخول الإسلام السياسي (كيفما كانت مرجعيته: وهابية أو إخوانية أو سلفية بمختلف تفريعاتها) إلى مؤسستنا الرسمية والمجتمعية قد أفسدها وحولها عن هدفها الأسمى لتوظيفها لأهداف سياسية ضيقة).
ولكنه نسي أنه اثبت لنا في بداية المقال ووسطه أن الإرهاب والتطرف كانا يعصفان بالبلد قبل اعتلاء الإسلام السياسي كرسي الحكومة!!
ثم هل صحيح أن مؤسساتنا الرسمية والمجتمعية كانت صالحة ومستقيمة وتخدم هدفها الأسمى يوم كان الاشتراكيون الليبراليون الحداثيون التنويريون يرتعون فيها ويديرون دفتها، وإذا كان كذلك فلماذا غادروها وتركوها(للفكر المتطرف والمنغلق يعشش ويعشعش في الكثير من مؤسساتنا المجتمعية، بدءا من الأسرة إلى المدرسة فالمسجد، مرورا بجمعيات المجتمع المدني التي تتخذ التربية الدينية والوظيفة الإحسانية والاجتماعية قناعا للتغطية على أهدافها الإيديولوجية والسياسية. وهي مؤسسات تروج لقيم غير قيم التسامح والانفتاح والتعايش وقبول الآخر، الخ.)؟؟
أليست هذه جريمة وطنية أخلاقية سياسية دستورية، يجب أن يحاسبوا عليها حسابا عسيرا؟!
ولا يفهمن القارئ من هذا كله أنني مع الإسلام السياسي لإقامة الخلافة الراشدة، فلي رأي مخالف قد اعلنته في مقال منشور في هذا الموقع، عنوانه: (لم الخوف من الإسلام السياسي) ولكن الحق يجب أن ينصر ويكشف عن النفاق والدجل والتزوير.