على الإسلام السياسي أن يعرف أن الديموقراطية ليست انتخابات أو حكم الأغلبية فقط، وإنما حق الأقلية في التعبير عن نفسها بكل حرية، وضرورة توفر حقوق وحريات الإنسان، وأنها حتى تتقدم يجب أن تستند إلى دستور جامع لا تخضع موادّه إلى الأغلبية والأقلية، وإلى ديموقراطية اجتماعية تحقق العدالة وتكافؤ الفرص وتكافح الفقر والجهل والبطالة والاستغلال.أثارت نتائج الانتخابات في تونس والمغرب والمرحلة الأولى من الانتخابات في مصر، التي فازت فيها الأحزاب الإسلامية، القلق عند الليبراليين والقوميين واليساريين والأقليات والمسيحيين، خشية من ألا يؤدي الربيع العربي إلى التحرر الوطني والاستقلال والسيادة والكرامة والعدالة والتنمية والديموقراطية، وإنما إلى دولة دينية تتحكم فيها أحزاب توظّف الدين لتحقيق أغراضها السياسيّة. وبالرغم من التطمينات التي أرسلها قادة إسلاميون، مثل راشد الغنوشي في تونس، وبنكيران في المغرب، وعدد من القادة الإسلاميين في مصر والمنطقة من أن الإسلاميين لن يفرضوا دولة دينية ولن يُقصوا الآخرين، وسيعتمدون على ترسيخ الأسس الديموقراطية في الحكم، خصوصًا لجهة ضمان حقوق المرأة والأقليات والمسيحيين، وأنهم لن يفرضوا الحجاب ولن يمنعوا شرب الخمر، لدرجة أن الغنوشي قال: «إن حكومة النهضة لن تمنع لبس البكيني»، إلا أن القلق لم ينحسر. فليس المهم ما يقوله بعض القادة الإسلاميين الأكثر تنورًا وانفتاحًا، وإنما ما يقوله قادة آخرون من الإخوان المسلمين، وما يقوله القادة السلفيون الذين حصلوا على أكثر من 20 ٪ من الأصوات في مصر من أنهم يرفضون إقامة دولة علمانية، بل ورفضوا مصطلح إقامة دولة مدنية، ويصرون على أن الإسلام هو مصدر التشريع في الدولة (الوحيد أو الرئيس)، وليس أحد مصادر التشريع، ويصرحون جهارًا نهارًا أنهم سيحاربون الكفر والانحلال الثقافي والفني، وسيغيرون وجه السياسة الاجتماعية جذريًا. ولعل ما يثير القلق أكثر، الأحاديث عن إتمام صفقة بين جماعة الإخوان المسلمين والإدارة الأمريكية، وحكومات الغرب بشكل عام، وهناك من يؤكد إتمام الصفقة، ويبرهن على ذلك بالاتفاق بين جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري في مصر، والتحالف بين الإسلاميين وحلف الناتو في ليبيا، والموقف المشترك مما يجري في سوريا، ولعل التصريحات الأمريكية التي صدرت على لسان هيلاري كلينتون، وغيرها من أركان الإدارة الأمريكية التي أظهرت ترحيبًا أمريكيا بنتائج الانتخابات في تونس والمغرب ومصر، وأنها لن تقطع المساعدات عن مصر حتى لو فاز الإخوان المسلمون في الانتخابات فيها، وهذا يشير إلى تغير في الموقف الأمريكي من معاداة الأحزاب الإسلامية إلى السعي إلى احتوائها، ولا يبرهن لوحده على أن الصفقة تمت أو أنها حتما ستتم. هناك لقاءات عدة عقدت بين قادة إسلاميين في مصر وتونس وغيرهما مع مسؤولين أمريكيين، ما يدل على أن السياسة الأمريكية السابقة التي كانت تفضل دعم الدكتاتوريات العسكرية خشية من انتصار الأصولية الإسلامية، بحجة دعم الاستقرار في المنطقة والحفاظ على وجود دور إسرائيل وعلى المصالح الأمريكية؛ قد تغيرت. ويذهب البعض إلى حد تصوير كل ما جرى في المنطقة على أنه: أولًا، مؤامرة عقدتها الدول الغربية مع الإسلام السياسي «المعتدل»، تحديدًا «الإخوان المسلمون»، وتقتضي بمحاربة «الإرهاب والتطرف الإسلامي» مقابل السماح للإخوان المسلمين بتولي الحكم أو المشاركة فيه بقوة شريطة المحافظة على معاهدتي السلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن، وأن يعقلنوا حركة حماس، وأن يقفوا مع أمريكا والدول العربية الخليجية ضد إيران، وفي وجه صعودها واحتمال انتشار المد الشيعي بالمنطقة. وثانيًا، مؤامرة تشارك فيها مباشرة دول الغرب وتركيا، وبشكل غير مباشر إيران، لفرض «سايكس بيكو» جديد يقسم المنطقة ليس على أساس جغرافي فقط، وإنما على أساس توزيع الموارد والثروات والأسواق. لا أوافق على الإطلاق على اعتبار كل ما يجري في المنطقة هو ثمرة خبيثة لمؤامرة بين الإسلام السياسي والغرب، أو بين الغرب وتركياوإيران، مع أن الأهداف الأمريكية والغربية الرامية إلى إيجاد شرق أوسط جديد، وتقسيم المنطقة قديمة وواضحة للعيان. وبالرغم من أن الرجل العربي المريض يشجع جيرانه والدول المهمة في العالم لمحاولة توزيع ميراثه، إلا أن ما جرى في المنطقة ثورات نظّمتها الشعوب العربية، خصوصًا الشباب، ضد الاستبداد والفساد والتبعية والدكتاتورية والتجزئة التي جعلت العرب في ذيل قائمة الدول في العالم، من حيث مؤشرات العلم والتقدم والتنمية والمساواة والعدالة والحرية والكرامة والديموقراطية. فلم يحرق بوعزيزي نفسه حيث كان الشرارة التي أشعلت السهل العربي عبر نزول الملايين إلى الشوارع، وبلغ عددهم بمصر في أحد الأيام إلى 18 مليون متظاهر تنفيذا لمؤامرة خارجية، أو تحقيقا لصفقة حقيقية أو متخيلة بين الإسلام السياسي والغرب الاستعماري، بل خرج من أجل الحرية والعدالة والكرامة والديموقراطية. فإذا أخذنا تونس على سبيل المثال، فلم تكن الثورة فيها ثورة فقر وجياع، فمعدل دخل الفرد في تونس يصل إلى 9454 دولارًا سنويًا، أي أكثر من ضعف العراق، وأكثر من معدل دخل الفرد في معظم البلدان العربية، كما حازت تونس على درجة معقولة من التعليم وعلى هامش من الحرية، ومع ذلك ثارت ثورة حرية، لأن حكم بن علي اضطهد التونسيين وداس على حقوقهم وحريتهم وكرامتهم. كما أن تأييد الولاياتالمتحدة للثورات يرجع إلى تراجع الدور السياسي لها، جراء تراجع اقتصادها ونفوذها في العالم كله وذلك بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، وبعد خسائرها البشرية والاقتصادية في العراق وأفغانستان وغيرهما، فيكفي أن نشير إلى أن حجم نسبة مساهمة الاقتصاد الأمريكي في الاقتصاد العالمي تراجعت أكثر من 10 ٪ في العقد ونصف العقد الماضيين لتصبح من 35 ٪ إلى أقل من 25 ٪. وخلق هذا التراجع فراغا في المنطقة العربية ساهم في حدوث الثورات، وكانت الأحزاب الإسلامية هي الأحزاب الوحيدة المهيأة لملء الفراغ، فهناك صعود للإسلام السياسي بدأ منذ ثمانينيات القرن الماضي، بعد فشل وهزيمة الأحزاب القومية واليسارية والليبرالية والدكتاتورية العسكرية، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة وسيطرة قطب واحد على العالم. لقد مُنِعَت جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر من ممارسة الحكم بعد فوزها الساحق في الانتخابات منذ أكثر من عشرين عامًا. ومُنِعَت أيضًا حركة حماس من الحكم بعد فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006، لأن الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل كانتا في ذروة القوة، أما الآن فهناك انحسارٌ بدأ في الظهور بعد هزيمة القوات الإسرائيلية في الحرب اللبنانية عام 2006، وفي عدم تحقيق إسرائيل لأهدافها في حرب الكوانين 2008 – 2009 على غزة، وفي تمكن إيران من تحقيق نفوذٍ واسعٍ في المنطقة بشكل عام، وفي العراق بشكل خاص، ومُضيّها في طريقها الصاعد للحصول على القنبلة النووية بالرغم من العقوبات والتهديدات بالحرب الأمريكية والإسرائيلية والدولية ضدها. وفي هذا السياق، صعدت تركيا لموازنة الصعود الإيراني، وكرد فعل لعدم تمكّنها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكثمرة للتقدم الاقتصادي الذي أحرزته تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية، حيث تضاعف الاقتصاد التركي 100 ٪ في عشر سنوات. ما سبق، يعني أنّ هناك تنافسا وسباقا ما بين المؤامرة لتقسيم المنطقة وفرض «سايكس بيكو» جديد عليها، وبين السعي إلى إجهاض الثورات العربية وحرفها عن تحقيق أهدافها واستنزافها في صراعات داخلية بين «الإسلام المعتدل» و«الإسلام المتطرف»، والشيعة والسنة، والإسلام والمسيحية، والأقليات والأغلبية، وصراع إقليمي بين العرب وإيران وحلفائها، وبين الشعوب العربية وقواها الثورية، بما فيها الأحزاب الإسلامية لوضع أقدامها على درب الحرية والكرامة والعدالة والتقدم والديموقراطية والاستقلال. لا يمكن التعامل على أساس أن المسألة حُسِمت أو أنها يمكن أن تُحسم بسرعة، فلقد جرت مياه كثيرة خلال العقود الماضية، وهذا أدى إلى تغيير داخل جماعة الإخوان المسلمين والأحزاب الإسلامية، فتحولت من قوى رجعية محافظة تتحالف مع الرجعية العربية والاستعمار الغربي ضد عبد الناصر والقومية والشيوعية والاتحاد السوفياتي، إلى قوى تحارب الاستعمار بلا هوادة، مثل القاعدة، وإلى قوى أخرى أصبح لديها طابعٌ وطنيٌ كفاحيٌ أدى إلى وقوفها ضد الاستعمار والتبعية وإسرائيل ومعاهدات السلام معها، وقدمت التضحيات الغالية في تونس ومصر ومختلف البلدان العربية على أيدي أنظمة استبدادية مدعومة من الغرب الاستعماري. هناك خشية من عودة جماعة الإخوان المسلمين إلى ما كانت عليه سابقا، ولكن هنالك أمل أيضا في انتصار الاتجاهات الوطنية التي انفتحت على قيم الديموقراطية والاستقلال والسيادة الوطنية. فهناك فرق بين ما أعلنه بلحاج أحد قادة جبهة الإنقاذ الجزائرية فور إعلان نتائج الانتخابات بأن الديموقراطية عرس ليوم واحد انتهى بفوز جبهة الإنقاذ، وبين ما يعلنه راشد الغنوشي ومحمد مرسي وحمزة منصور وخالد مشعل بأن الديموقراطية تعني انتخابات دورية وتداول للسلطة، ومساواة بين المواطنين، بغض النظر عن الجنس والدين والقومية. على الإسلام السياسي أن يعرف أن الديموقراطية ليست انتخابات أو حكم الأغلبية فقط، وإنما حق الأقلية في التعبير عن نفسها بكل حرية، وضرورة توفر حقوق وحريات الإنسان، وأنها حتى تتقدم يجب أن تستند إلى دستور جامع لا تخضع موادّه إلى الأغلبية والأقلية، وإلى ديموقراطية اجتماعية تحقق العدالة وتكافؤ الفرص وتكافح الفقر والجهل والبطالة والاستغلال. إن الديموقراطية شكل من أشكال ممارسة الحرية، الحرية للوطن والمواطن، فلا يمكن بيع القضايا الوطنية والاستقلال والسيادة على مذبح صفقة تتولى فيها الأحزاب الإسلامية الحكم، بحيث تكون أنظمة تتغطى بقشرة إسلامية تُخفي تحتها استمرار أنظمة الحكم السابقة، بحيث يبقى الفساد والاستبداد والتبعية والتجزئة. يبقى أن الرهان على الشعوب العربية وعلى المواطن العربي الذي خرج من القمقم، وأدرك أنه قادر على التغيير، لدرجة أن الحاكم العربي الآن بات، لأول مرة، يخاف من المواطن العربي، وهذه حقيقة بالغة الدِّلالة ستفرض نفسها شيئا فشيئا على جميع البلدان العربية، حتى التي لم تشهد ثورات. فبعد الربيع العربي لن يعود المواطن العربي مثلما كان، مع أن التغيير بحاجة إلى مراحل، ويتخلله مدٌ وجزرٌ، وإذا لم يلب الإسلام السياسي حاجات المواطن العربي فسيسقط مثلما سقط الذين قبله. بقلم: هاني المصري
على الإسلام السياسي أن يعرف أن الديموقراطية ليست انتخابات أو حكم الأغلبية فقط، وإنما حق الأقلية في التعبير عن نفسها بكل حرية، وضرورة توفر حقوق وحريات الإنسان، وأنها حتى تتقدم يجب أن تستند إلى دستور جامع لا تخضع موادّه إلى الأغلبية والأقلية، وإلى ديموقراطية اجتماعية تحقق العدالة وتكافؤ الفرص وتكافح الفقر والجهل والبطالة والاستغلال.أثارت نتائج الانتخابات في تونس والمغرب والمرحلة الأولى من الانتخابات في مصر، التي فازت فيها الأحزاب الإسلامية، القلق عند الليبراليين والقوميين واليساريين والأقليات والمسيحيين، خشية من ألا يؤدي الربيع العربي إلى التحرر الوطني والاستقلال والسيادة والكرامة والعدالة والتنمية والديموقراطية، وإنما إلى دولة دينية تتحكم فيها أحزاب توظّف الدين لتحقيق أغراضها السياسيّة. وبالرغم من التطمينات التي أرسلها قادة إسلاميون، مثل راشد الغنوشي في تونس، وبنكيران في المغرب، وعدد من القادة الإسلاميين في مصر والمنطقة من أن الإسلاميين لن يفرضوا دولة دينية ولن يُقصوا الآخرين، وسيعتمدون على ترسيخ الأسس الديموقراطية في الحكم، خصوصًا لجهة ضمان حقوق المرأة والأقليات والمسيحيين، وأنهم لن يفرضوا الحجاب ولن يمنعوا شرب الخمر، لدرجة أن الغنوشي قال: «إن حكومة النهضة لن تمنع لبس البكيني»، إلا أن القلق لم ينحسر. فليس المهم ما يقوله بعض القادة الإسلاميين الأكثر تنورًا وانفتاحًا، وإنما ما يقوله قادة آخرون من الإخوان المسلمين، وما يقوله القادة السلفيون الذين حصلوا على أكثر من 20 ٪ من الأصوات في مصر من أنهم يرفضون إقامة دولة علمانية، بل ورفضوا مصطلح إقامة دولة مدنية، ويصرون على أن الإسلام هو مصدر التشريع في الدولة (الوحيد أو الرئيس)، وليس أحد مصادر التشريع، ويصرحون جهارًا نهارًا أنهم سيحاربون الكفر والانحلال الثقافي والفني، وسيغيرون وجه السياسة الاجتماعية جذريًا. ولعل ما يثير القلق أكثر، الأحاديث عن إتمام صفقة بين جماعة الإخوان المسلمين والإدارة الأمريكية، وحكومات الغرب بشكل عام، وهناك من يؤكد إتمام الصفقة، ويبرهن على ذلك بالاتفاق بين جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري في مصر، والتحالف بين الإسلاميين وحلف الناتو في ليبيا، والموقف المشترك مما يجري في سوريا، ولعل التصريحات الأمريكية التي صدرت على لسان هيلاري كلينتون، وغيرها من أركان الإدارة الأمريكية التي أظهرت ترحيبًا أمريكيا بنتائج الانتخابات في تونس والمغرب ومصر، وأنها لن تقطع المساعدات عن مصر حتى لو فاز الإخوان المسلمون في الانتخابات فيها، وهذا يشير إلى تغير في الموقف الأمريكي من معاداة الأحزاب الإسلامية إلى السعي إلى احتوائها، ولا يبرهن لوحده على أن الصفقة تمت أو أنها حتما ستتم. هناك لقاءات عدة عقدت بين قادة إسلاميين في مصر وتونس وغيرهما مع مسؤولين أمريكيين، ما يدل على أن السياسة الأمريكية السابقة التي كانت تفضل دعم الدكتاتوريات العسكرية خشية من انتصار الأصولية الإسلامية، بحجة دعم الاستقرار في المنطقة والحفاظ على وجود دور إسرائيل وعلى المصالح الأمريكية؛ قد تغيرت. ويذهب البعض إلى حد تصوير كل ما جرى في المنطقة على أنه: أولًا، مؤامرة عقدتها الدول الغربية مع الإسلام السياسي «المعتدل»، تحديدًا «الإخوان المسلمون»، وتقتضي بمحاربة «الإرهاب والتطرف الإسلامي» مقابل السماح للإخوان المسلمين بتولي الحكم أو المشاركة فيه بقوة شريطة المحافظة على معاهدتي السلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن، وأن يعقلنوا حركة حماس، وأن يقفوا مع أمريكا والدول العربية الخليجية ضد إيران، وفي وجه صعودها واحتمال انتشار المد الشيعي بالمنطقة. وثانيًا، مؤامرة تشارك فيها مباشرة دول الغرب وتركيا، وبشكل غير مباشر إيران، لفرض «سايكس بيكو» جديد يقسم المنطقة ليس على أساس جغرافي فقط، وإنما على أساس توزيع الموارد والثروات والأسواق. لا أوافق على الإطلاق على اعتبار كل ما يجري في المنطقة هو ثمرة خبيثة لمؤامرة بين الإسلام السياسي والغرب، أو بين الغرب وتركياوإيران، مع أن الأهداف الأمريكية والغربية الرامية إلى إيجاد شرق أوسط جديد، وتقسيم المنطقة قديمة وواضحة للعيان. وبالرغم من أن الرجل العربي المريض يشجع جيرانه والدول المهمة في العالم لمحاولة توزيع ميراثه، إلا أن ما جرى في المنطقة ثورات نظّمتها الشعوب العربية، خصوصًا الشباب، ضد الاستبداد والفساد والتبعية والدكتاتورية والتجزئة التي جعلت العرب في ذيل قائمة الدول في العالم، من حيث مؤشرات العلم والتقدم والتنمية والمساواة والعدالة والحرية والكرامة والديموقراطية. فلم يحرق بوعزيزي نفسه حيث كان الشرارة التي أشعلت السهل العربي عبر نزول الملايين إلى الشوارع، وبلغ عددهم بمصر في أحد الأيام إلى 18 مليون متظاهر تنفيذا لمؤامرة خارجية، أو تحقيقا لصفقة حقيقية أو متخيلة بين الإسلام السياسي والغرب الاستعماري، بل خرج من أجل الحرية والعدالة والكرامة والديموقراطية. فإذا أخذنا تونس على سبيل المثال، فلم تكن الثورة فيها ثورة فقر وجياع، فمعدل دخل الفرد في تونس يصل إلى 9454 دولارًا سنويًا، أي أكثر من ضعف العراق، وأكثر من معدل دخل الفرد في معظم البلدان العربية، كما حازت تونس على درجة معقولة من التعليم وعلى هامش من الحرية، ومع ذلك ثارت ثورة حرية، لأن حكم بن علي اضطهد التونسيين وداس على حقوقهم وحريتهم وكرامتهم. كما أن تأييد الولاياتالمتحدة للثورات يرجع إلى تراجع الدور السياسي لها، جراء تراجع اقتصادها ونفوذها في العالم كله وذلك بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، وبعد خسائرها البشرية والاقتصادية في العراق وأفغانستان وغيرهما، فيكفي أن نشير إلى أن حجم نسبة مساهمة الاقتصاد الأمريكي في الاقتصاد العالمي تراجعت أكثر من 10 ٪ في العقد ونصف العقد الماضيين لتصبح من 35 ٪ إلى أقل من 25 ٪. وخلق هذا التراجع فراغا في المنطقة العربية ساهم في حدوث الثورات، وكانت الأحزاب الإسلامية هي الأحزاب الوحيدة المهيأة لملء الفراغ، فهناك صعود للإسلام السياسي بدأ منذ ثمانينيات القرن الماضي، بعد فشل وهزيمة الأحزاب القومية واليسارية والليبرالية والدكتاتورية العسكرية، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة وسيطرة قطب واحد على العالم. لقد مُنِعَت جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر من ممارسة الحكم بعد فوزها الساحق في الانتخابات منذ أكثر من عشرين عامًا. ومُنِعَت أيضًا حركة حماس من الحكم بعد فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006، لأن الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل كانتا في ذروة القوة، أما الآن فهناك انحسارٌ بدأ في الظهور بعد هزيمة القوات الإسرائيلية في الحرب اللبنانية عام 2006، وفي عدم تحقيق إسرائيل لأهدافها في حرب الكوانين 2008 – 2009 على غزة، وفي تمكن إيران من تحقيق نفوذٍ واسعٍ في المنطقة بشكل عام، وفي العراق بشكل خاص، ومُضيّها في طريقها الصاعد للحصول على القنبلة النووية بالرغم من العقوبات والتهديدات بالحرب الأمريكية والإسرائيلية والدولية ضدها. وفي هذا السياق، صعدت تركيا لموازنة الصعود الإيراني، وكرد فعل لعدم تمكّنها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكثمرة للتقدم الاقتصادي الذي أحرزته تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية، حيث تضاعف الاقتصاد التركي 100 ٪ في عشر سنوات. ما سبق، يعني أنّ هناك تنافسا وسباقا ما بين المؤامرة لتقسيم المنطقة وفرض «سايكس بيكو» جديد عليها، وبين السعي إلى إجهاض الثورات العربية وحرفها عن تحقيق أهدافها واستنزافها في صراعات داخلية بين «الإسلام المعتدل» و«الإسلام المتطرف»، والشيعة والسنة، والإسلام والمسيحية، والأقليات والأغلبية، وصراع إقليمي بين العرب وإيران وحلفائها، وبين الشعوب العربية وقواها الثورية، بما فيها الأحزاب الإسلامية لوضع أقدامها على درب الحرية والكرامة والعدالة والتقدم والديموقراطية والاستقلال. لا يمكن التعامل على أساس أن المسألة حُسِمت أو أنها يمكن أن تُحسم بسرعة، فلقد جرت مياه كثيرة خلال العقود الماضية، وهذا أدى إلى تغيير داخل جماعة الإخوان المسلمين والأحزاب الإسلامية، فتحولت من قوى رجعية محافظة تتحالف مع الرجعية العربية والاستعمار الغربي ضد عبد الناصر والقومية والشيوعية والاتحاد السوفياتي، إلى قوى تحارب الاستعمار بلا هوادة، مثل القاعدة، وإلى قوى أخرى أصبح لديها طابعٌ وطنيٌ كفاحيٌ أدى إلى وقوفها ضد الاستعمار والتبعية وإسرائيل ومعاهدات السلام معها، وقدمت التضحيات الغالية في تونس ومصر ومختلف البلدان العربية على أيدي أنظمة استبدادية مدعومة من الغرب الاستعماري. هناك خشية من عودة جماعة الإخوان المسلمين إلى ما كانت عليه سابقا، ولكن هنالك أمل أيضا في انتصار الاتجاهات الوطنية التي انفتحت على قيم الديموقراطية والاستقلال والسيادة الوطنية. فهناك فرق بين ما أعلنه بلحاج أحد قادة جبهة الإنقاذ الجزائرية فور إعلان نتائج الانتخابات بأن الديموقراطية عرس ليوم واحد انتهى بفوز جبهة الإنقاذ، وبين ما يعلنه راشد الغنوشي ومحمد مرسي وحمزة منصور وخالد مشعل بأن الديموقراطية تعني انتخابات دورية وتداول للسلطة، ومساواة بين المواطنين، بغض النظر عن الجنس والدين والقومية. على الإسلام السياسي أن يعرف أن الديموقراطية ليست انتخابات أو حكم الأغلبية فقط، وإنما حق الأقلية في التعبير عن نفسها بكل حرية، وضرورة توفر حقوق وحريات الإنسان، وأنها حتى تتقدم يجب أن تستند إلى دستور جامع لا تخضع موادّه إلى الأغلبية والأقلية، وإلى ديموقراطية اجتماعية تحقق العدالة وتكافؤ الفرص وتكافح الفقر والجهل والبطالة والاستغلال. إن الديموقراطية شكل من أشكال ممارسة الحرية، الحرية للوطن والمواطن، فلا يمكن بيع القضايا الوطنية والاستقلال والسيادة على مذبح صفقة تتولى فيها الأحزاب الإسلامية الحكم، بحيث تكون أنظمة تتغطى بقشرة إسلامية تُخفي تحتها استمرار أنظمة الحكم السابقة، بحيث يبقى الفساد والاستبداد والتبعية والتجزئة. يبقى أن الرهان على الشعوب العربية وعلى المواطن العربي الذي خرج من القمقم، وأدرك أنه قادر على التغيير، لدرجة أن الحاكم العربي الآن بات، لأول مرة، يخاف من المواطن العربي، وهذه حقيقة بالغة الدِّلالة ستفرض نفسها شيئا فشيئا على جميع البلدان العربية، حتى التي لم تشهد ثورات. فبعد الربيع العربي لن يعود المواطن العربي مثلما كان، مع أن التغيير بحاجة إلى مراحل، ويتخلله مدٌ وجزرٌ، وإذا لم يلب الإسلام السياسي حاجات المواطن العربي فسيسقط مثلما سقط الذين قبله. هاني المصري - الأحداث المغربية