صار لافتا للانتباه ما يمر به بلدنا من مرحلة عصيبة، قد تسحبه إلى مزيد من التوتر والاحتقان، وتهدد السلم الاجتماعي ما لم يتم التعجيل بتجاوز الاختلالات القائمة. فالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في تدهور متواصل، والساحة السياسية والنقابية تشهد سيلا من المزايدات وتصفية الحسابات الضيقة بين الفاعلين السياسيين، فضلا عن تراجع مستوى الخطاب السياسي، الذي بات موغلا في التشنج والرداءة، في ظل حكومة جاءت متوعدة بدك قلاع الفساد والاستبداد، والاستجابة لانتظارات فئات الشعب المسحوقة، وتحقيق آمالها وأحلامها. فإذا بها تنحرف عن الاتجاه الصحيح، لانعدام الرؤية الواضحة، الكفاءة والقدرة على القيادة السليمة. ذلك أن الربان السيد: عبد الإله بنكيران، لقلة خبرته وإيمانه الشديد بمنطق المؤامرة، بدا فاقدا البوصلة وسريع الانفعال، فلا تكاد زلاته تتوقف إلا لتتناسل من جديد بسخاء حاتمي، غير مكترث بما تخلفه من آثار سيئة وإحباط عميق. وبتنا كأننا أمام مسؤول جيء به من كوكب آخر، لأداء ما رسم له من أدوار، يمكن إجمالها في خلط الأوراق وتعطيل الانتقال الديمقراطي، زرع بذور التيئيس في النفوس، وبث سموم التفرقة في صفوف الهيئات السياسية والمنظمات النقابية، رغم ما توافر لديه من شروط، لم يستطع استثمارها في تجسيد شعاراته الرنانة وتعهداته الانتخابية على أرض الواقع. فدستور 2011 منحه صلاحيات واسعة، كان حريا به الحرص على حسن استغلالها لمصلحة البلاد، والمبادرة إلى اعتماد "المعقول" في الاهتمام بقضايا وهموم العباد، بدل إشهار ورقة المظلومية والانشغال بالصراعات الجانبية والملاسنات الكلامية، والانزياح عما قطعه على نفسه من وعود للقضاء على كافة مظاهر الفساد واقتصاد الريع. إذ مازالت رؤوس الفساد حاضرة بقوة، إن لم يكن تعزز نفوذها، وبسطت هيمنتها على خيرات البلاد دون حسيب ولا رقيب، لاسيما بعد استبداله شعار "محاربة الفساد والاستبداد" بقولته الشهيرة "عفا الله عما سلف"، وافتقاره إلى استراتيجية مندمجة وواضحة المعالم. فضلا عن غياب إجراءات عملية ملموسة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وفشله في: خلق مناخ طبيعي في البرلمان، فتح قنوات حوار اجتماعي ممأسس وهادف، اعتماد حكامة جيدة، وتفعيل أدوار مؤسسات القضاء والمفتشية العامة للمالية والمفتشية العامة للإدارة الترابية، والتصدي لما يتعرض له المال العام من نهب وتبديد وتهريب، والحد من انتشار آفة الرشوة وخاصة في المجالات المرتبطة بالمعيش اليومي للمواطن ومصالحه، ومنها المحاكم، مصالح الأمن، مستشفيات وغيرها من المرافق العمومية... والمتتبع للشأن العام، بات يدرك جيدا وبلا أدنى جهد، أن حكومة السيد بنكيران، رغم ما يطبع سيرها من ارتجال وتفكك، تعتبر جد متفوقة على سابقاتها من الحكومات المتعاقبة، بالنظر إلى ما تملكه من قدرات "خارقة" على التعاضد السريع، والدفاع المستميت عن أعضائها كلما ظهرت فضيحة أحدهم أو تسربت أخبار عن تبذير أو سوء تدبير، عملا بقول الرسول الكريم "انصر أخاك ظالما ومظلوما" وفق ما يخدم مصالحها الخاصة. ومما أثار استغرابنا، أن السيد: محمد بوسعيد وزير المالية والاقتصاد، أمر بإجراء افتحاص عاجل لمالية الوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، التي يتولى حقيبتها السيد: حبيب الشوباني، الوزير الذي أحدثت علاقته العاطفية مع زميلته ورفيقة دربه في الحزب الحاكم، ومديرة ديوانه قبل الاستوزار والطلاق من والد أبنائها، الوزيرة المنتدبة بالتعليم العالي السيدة: سمية بنخلدون، ضجة إعلامية وسياسية قوية، تداولتها على نطاق واسع تحت عنوان فاضح "العشق الممنوع"، مواقع التواصل الاجتماعي في الشبكة العنكبوتية، كما تناقلتها الصحافة الدولية. ويشار أيضا إلى أنه كان بطلا لما عرف بقضية "دكتوراة الشوباني"، التي اهتزت لها أركان كلية الحقوق بالرباط، وأثارت سخطا عارما بين الطلبة المتضامنين مع الطالبة الباحثة شريفة لموير من إقليم زاكورة، التي تعرضت لإقصاء ممنهج، إثر تشابه مشروع بحثها مع مشروع الطالب/الوزير. ولعل مصدر استغرابنا يعود إلى كون وزير المالية، اختار لرفع الضغط عن الحكومة والوزيرين، إصدار أمر افتحاص مالية وزارة العريس، مباشرة بعد انتشار خبر قيام زوجته بخطبة ضرتها. ويتعلق الأمر بتحديد مصير مليار و700 مليون سنتيم المخصصة للحوار الوطني حول المجتمع المدني، ومطالبة المفتشية العامة بوزارة المالية بالبيانات حول كيفية صرف المبلغ، الذي ساهمت فيه الحكومة ب700 مليون سنتيم، والبنك الدولي بنفس المبلغ، والبنك الإفريقي للتنمية ب300 مليون سنتيم. ما يحتم عليه توضيح تفاصيل طلبات العروض وطرق إنجازها، مع جرد شامل بمجموع مصاريف الحوار الوطني منذ انطلاقته إلى غاية نهايته في شهر يونيو 2014. وجدير بالذكر أن حزب "الأصالة والمعاصرة" في المعارضة، سبق أن طرح سؤالا شفويا بمجلس النواب، يستفسر الوزير عن كيفية إنفاق تلك الميزانية، فضلا عما خلقه الموضوع من سجال بين أعضاء لجنة مراقبة الإنفاق العمومي في متم شهر شتنبر 2014. وأن صحيفة "الأخبار" كانت أوردت في العدد: 753 الصادر يوم 28 أبريل 2015، حقائق صادمة عن استفادة بعض قياديي الحزب الحاكم ومقربين منهم في جناحه الدعوي "الإصلاح والتوحيد". ويأتي على رأس المستفيدين من الكعكة/الصفقات، التي تمت خارج إطار المنافسة الشريفة خلافا لما تقتضيه قوانين طلبات العروض، صنو رئيس الفريق البرلماني عبد الله بوانو، الذي لا يتورع عن اختلاق الأكاذيب ورشق المعارضة وقادتها بالأباطيل. ترى ما الذي جعل صاحب تدوينة "غزوة الإفك"، الذي عودنا على خرجاته الإعلامية الفارغة، يتلكأ عن الظهور أمام المطالبين بالحقيقة، والقيام بنشر تقرير مفصل ومدقق عبر الموقع الإلكتروني لوزارته، عن أسماء وأصحاب الشركات المستفيدة من تلك الصفقات، التي صرفت على حواره الفاشل؟ ألم يكن من الأفيد إعطاء نموذج مشرف عن المعنى العميق للشفافية وإخلاء ذمته من الشبهات، عوض اللجوء إلى المناورات وطمس الحقائق في بيان باهت يذكرنا بعبارة "يكاد المريب يقول خذوني"؟ أم أن حبه الجنوني أعماه وألهاه عن واجباته المهنية؟ ثم كيف للحكومة أن تكشف للرأي العام عن نتائج الافتحاص، إذا ما اتضح أن عملية الصرف شابتها خروقات، ونحن نعلم أن رئيسها يدعي اتصاف وزرائه بالنزاهة، رغم ما اقترفه بعضهم من فضائح مدوية أزكمت روائحها الأنوف في الداخل والخارج: الشكلاطة والكراطة والحمامات وغرف النوم بالمكاتب، والتلاعب بالتعيينات في المناصب العليا؟ مما لا ريب فيه أن المغاربة فقدوا ثقتهم في الحكومة، بعدما أجهزت على قدرتهم الشرائية، وتراجعت عن عديد المكتسبات. حكومة أخل رئيسها بالتزامته وأغرق البلاد في مستنقعات المديونية، وبدا عاجزا عن إصلاح صناديق التقاعد وحل أزمة التعليم ومشاكل الصحة والعدالة ومعضلة البطالة... كفى من العبث.. كفى من الضحك على الذقون وذر الرماد في العيون، فلم يعد ممكنا امتصاص غضب الشارع عبر لجن تقصي الحقائق وافتحاصات مالية صورية. انكشفت خيوط اللعبة وما عادت الحيل السخيفة تنطلي حتى على الأطفال الصغار.