، عقدت بالرباط ندوة مغربية فرنسية تحت عنوان: «محمد الخامس-دوغول.. من نداء إلى آخر». حول طاولة واحدة، جلس أكثر من 300 مشارك مغربي وفرنسي، وعلى أسماعهم قرئت رسالة الملك محمد السادس بالمناسبة، ورسالة أخرى لساركوزي. وكلتا الرسالتين ركزتا على الجانب المضيء في القمر، أي الصفحات المشرقة لتاريخ فرنسا والمغرب، والمقصود طبعا هو مشاركة المغاربة في الحرب العالمية الثانية إلى جانب فرنسا والحلفاء ضد النازية والفاشية... دائما أكرر مقولة العروي التي تقول إن «عدو رجل السياسة هو المؤرخ»، لماذا؟ «لأن المؤرخ يُذكِّر ويتذكر»، واسترجاع الذاكرة، بكل ما فيها من مخزون، عملية مضنية، خصوصا إذا كانت هذه الذاكرة مجروحة، وجروحها لم تتداو بأعشاب «الحقيقة والإنصاف» .. أو بالاعتذار والصفح. نعم، السلطان محمد الخامس وقف موقفا تاريخيا سنة 1940، عندما دخلت فرنسا الحرب ضد النازية، وعندما احتلت جيوش هتلر باريس، وأسقطت حكومتها الشرعية ونصبت أخرى عميلة. لم يستغل السلطان والحركة الوطنية ضعف فرنسا وتشتت قادتها للمطالبة بحقهم في الاستقلال أو الانحياز إلى دول المحور نكاية في فرنسا تحت شعار: «عدو عدوي صديقي»... لم يقع شيء من هذا، ولم يقف محمد الخامس والمغاربة على الحياد في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل... بل إن دفاع المغرب عن العالم الحر ووقوفه في وجه النازية والفاشية، اللتين كانتا تهددان العالم بخطر كبير، دفع السلطان إلى دعوة شعبه إلى مناصرة فرنسا، وإلى القتال إلى جانبها في الحرب العالمية الثانية... ظل الجنود المغاربة يقاتلون دفاعا عن شرف فرنسا حتى بعد هزيمتها النكراء ضد جيوش هتلر، ولم يستسلم المغاربة كما فعل فرنسيون كثيرون وضعوا السلاح وقبلوا بالانضمام إلى حكومة فيشي العميلة التي نصبها النازيون في باريس. انتقلت فيالق المتطوعين المغاربة إلى القتال في صفوف قوات الجنرال دوغول تحت راية «فرنسا الحرة»، التي كان القائد الفرنسي يوجهها من منفاه في لندن. لقد صدرت كتب عديدة في فرنسا عن بطولات المغاربة في حرب تحرير فرنسا لتخليصها من الاحتلال الألماني... أكثر من هذا، ساهم المغرب في الحرب ليس فقط بالرجال، بل بالمؤونة (الطعام واللباس...) في وقت كانت البلاد تعيش أزمة كبيرة... فماذا حدث لما انتصر الحلفاء بفضل تدخل أمريكا في الحرب وبفضل المقاومة الكبيرة للنازية في أوربا؟ هل اعترف الجنرال، الذي أصبح «أسطوريا» بعد تخليص فرنسا من يد النازية، باستقلال المغرب؟ هل قدم مقابلا لتضحيات السلطان والحركة الوطنية، وقد كانت فيها عناصر -خاصة في الشمال- ذهبت إلى ألمانيا، وحاولت اللعب على تناقضات القوى الاستعمارية؟ شيء من هذا لم يقع. لما قدمت الحركة الوطنية وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، تعرض الوطنيون لحملات واسعة من القمع والتنكيل لم يعرف لها المغرب مثيلا، وسقط شهداء كثيرون في الرباط وسلا ووجدة ومراكش وفاس ومكناس... فقط لأن هؤلاء كانوا يطالبون سلميا بما كان دوغول يطالب به عسكريا لبلاده، أي الاستقلال وإنهاء الاحتلال... أكثر من هذا، ويا للمفارقة، لجأ عدد كبير من الوطنيين إلى شمال المملكة الذي كان محتلا من قبل إسبانيا، لأن القمع الفرنسي كان أقوى من القمع الإسباني الذي كان يقوده حليف هتلر، أي الجنرال فرانكو... المغاربة الذين قاتلوا هتلر وموسوليني وفرانكو في أوربا، يفرون للاختباء عند فرانكو في المغرب هربا من قوات دوغول قائد حركة فرنسا الحرة. والسلطان الذي «أفتى» بجواز القتال إلى جانب المسيحيين دفاعا عن الحرية، يُنفى عن بلاده، وتُسقط فرنسا عرشه، وتشوه سمعته (كم كتب وقيل في صحافة الاستعمار بالمغرب عن الملك الشاب وعن حريمه وثروته...). التاريخ لا يقبل الدعوات الانتقائية أو الحضور بالتقسيط، إما أن نفتح كتابه ونقرأ كل صفحاته أو نتركه جانبا... مازال للمغرب في عنق فرنسا «اعتذار كبير» عما حدث منذ سنة 1912 إلى سنة 1956. فرنسا قتلت الآلاف من المغاربة الذين نادوا بالاستقلال، وفي المقابل، قدم المغرب عشرات الآلاف من المغاربة الذين ضحوا بأرواحهم من أجل حرية فرنسا واستقلالها، في وقت هرب فرنسيون من الواجب الوطني، وخان فرنسيون آخرون بلاد الثورة... ثم نسمع الآن دعوات اليمين الفرنسي بطرد المهاجرين المغاربة من فرنسا، ونسمع عن حملات تطهير «الهوية الفرنسية النقية» مما علق بها من شوائب عربية ومسلمة وإفريقية... نعم، لا يجب أن نجعل التاريخ عقبة أمام الحاضر، لكن أبدا لن يبنى المستقبل إذا لم نعالج جراح الماضي، خصوصا عندما تلوح ظلاله أمامنا بين حين وآخر.