من عادة العرب أن ينسجوا قصائد نثر طويلة تمجيدا وتعظيما وتباكيا على اللغة العربية.. وغالبا ما تأخذهم «الحموة القومجية" كلما خُيِّل لهم أن المتآمرين يحيكون آخر فصول وتفاصيل الخطة التي سيتم بها دق آخر مسمار في نعش حروف «الضاد». مشكلة معظم هذه الآراء أن أصحابها لا يجمعهم بعلم اللسانيات إلا الخير والإحسان، وفي اللحظة التي يعرقون فيها «وينشفون» من أجل صياغة مقالات سوريالية توحي بأن العربية على مقصلة الإعدام، يتجاهلون أو يجهلون حقيقة أن اللغة، أي لغة، يكون حالها من حال المستوى الحضاري للشعوب الناطقة بها.. لأن الأمم المتقدمة تفرض دائما لغاتها الحية بسبب كونها «لغات علم ومعرفة». والذين يتحدثون عن إعدام اللغة العربية بسبب "الفَرْنَسَة" ينسون أن «لغة الضاد»، من وجهة نظر اللسانيات، لغة شبه ميتة، لأنها لا تشكل "اللغة الأم" بالنسبة إلى أي شخص في العالم. هذه الحقيقة الصادمة والتي لن تروق الكثيرين تتناقض تماما مع ما هو سائد في الأذهان، حيث إن الغالبية العظمى من المغاربة يعتقدون أن لغتهم الأم هي اللغة العربية، وهذا خطأ لأننا لا نتعلمها إلا في المدرسة، وقبل ذلك لا نتكلم إلا الدارجة (أو الأمازيغية) كلغة أم نتعلمها بشكل لاشعوري (أي من دون تلقين للقواعد والأصول كما يحدث في المدرسة). ما دمنا متخلفين عن ركب الحضارة فستظل لغتنا على مستواها الحالي لا تعكس إلا الصورة الحقيقية لواقع الحال الحضاري. بعبارة أخرى "اللغة مرآة المجتمع"... ومن طرائف هذه الحقيقة أن بعض العبارات التي نستعملها تعكس بشكل "صادق" طرق تفكيرنا. ودارجتنا المغربية هي لغة عرضية بمعنى أنها تعرض و"تفرش" مجموعة من النقاط السلبية في طرق تفكيرنا، من بينها أننا شعب لا يحب معظم أفراده الاعتراف بمسؤوليتهم عن أفعالهم ويلقون بالخطأ دوما على موضوع خارجي (الظروف أو الأشخاص الآخرون)، فنحن نقول كلما تأخرنا عن موعد القطار أو الحافلة: "مشى علي التران، أو الكار"، أي أن القطار -ولد الحرام- هو الذي قرر الانطلاق قبل الموعد (بلعاني)... وعندما يخبط أحدنا رأسه مع النافذة مثلا يقول للمحيطين به تفسيرا للألم: "ضربني الشرجم" وكأن هذا الشرجم الوقح تحرك من تلقاء نفسه عنوة ونطح رأسه انتقاما لشيء ما. وكلما حصل تلميذ مغربي "أصيل" على معدل هزيل في الامتحان فإنه يقول وبكل سنطيحة: "عطاني الأستاذ 20/4" عوض أن يتحمل مسؤوليته ويقرَّ بالقول: "جبت 20/4"... الأمثلة كثيرة والحيز ضيق، ولكن الخلاصة العامة لهذه النقطة تكمن في حقيقة كون اللغة وسيلة من أهم الوسائل التي نتعرف من خلالها على أنماط تفكير الشعوب، ويكفينا أن نعلم مثلا أن كل اللغات الأوربية تعبر عن كل هذه الوقائع بجمل يكون الفاعل فيها هو الشخص المتكلم والذي يتحمل كل المسؤولية عن أفعاله. لا يجب علينا أن ننساق وراء الخطب والشعارات والزبد المتطاير من الأفواه المتحمسة، وعلينا أن نتحلى بقليل من الواقعية، إذ ليس بإعادة أمجاد اللغة سنتطور ونتقدم كما يردد بعض هواة الكلام، بل العكس هو الصحيح. لأن الأمجاد الغابرة لن تعود إلا إذا تقدمنا وحُزْنا مكانة وسط الدول العظمى... والجميع يعرف أن اللغة العربية كانت مطلبا عالميا يسافر من أجل عيونها وحروفها مواطنو أوربا الغارقة في عصور الظلام، خلال تلك الفترة الزاهرة التي كان فيها المسلمون أسياد العالم معرفيا... ورغم كل هذا فاللغة العربية لن تموت ما دام القرآن في بيت كل واحد منا، ومادامت هي اللغة التي نكتب بها هذا الكلام ونقرأ بها جزءا مما تيسر من مطبوعات وكتب ومعارف... فلا داعي إلى مزيد من دموع تماسيح بئيسة لا تفقه شيئا وتفشل كل مرة، ودائما، في بلع ألسنتها وتصر على إشراك حميرها في أسبوع الفرس كل حين ومرة... والله يهدي ما خلق... وعليكم ألف تحية وسلام.