التعثر الذي تعرفه المشاورات الهادفة إلى الإصلاح القضائي، دليل على الصعوبات والعوائق التي تعترض الخروج من الأبواب المسدودة لعالم القضاء والمحاكم. في وقت ما كان يصعب على أي كان في هذا البلد، أن ينتقد الحالة التي يوجد عليها القضاء، رغم أن الكل كان يشعر بأن المواطنين ليسوا مرتاحين من أداء المحاكم ويتألمون من تدهور الأحكام القضائية. ولكن عندما تحدث جلالة الملك محمد السادس في إحدى خطبه عن وجوب الاهتمام بإصلاح القضاء، لم يعد أحد يخاف من التعبير عن وجهة نظره في الموضوع وعن ضرورة استقلال القضاء. في البداية، أي عند إعلان الاستقلال، كان المغاربة يعتقدون أن الدولة ستتغلب بسهولة على مخلفات عهد الاستعمار، وأن الظلم سيُرفع عنهم، وأن محكمة عهد الاستقلال ستحل محل محكمة عهد الحماية. وكان وجود الأستاذ عبد الكريم بن جلون على رأس وزارة العدل على طول الفترة الممتدة من دجنبر 1955 إلى دجنبر 1958، يوحي بأن العدل سيكون دائما هو أساس الملك، وأن القضاء سيكون سلطة مستقلة، وأن القضاة لن يتعرضوا لأي ضغط. لكن الاعتبارات السياسية أخذت فيما بعد تتسرب تدريجيا إلى عالم القضاء، وأصبحت العادة هي البحث عن قضاة كانوا متعاملين مع سلطة الحماية، لتكليفهم بالمحاكمات السياسية. وبعد انتخابات ماي 1963 استُدعي أحد المستشارين بالمجلس الأعلى، كانوا قد كلفوه بوضع تقرير بشأن ما جرى في الدائرة الانتخابية الأولى بالعاصمة، ولأنه توصل إلى خلاصة مخالفة للنتيجة التي سبق أن أعلن عنها وزير الداخلية اكديرة، فقد قيل للمستشار بالمجلس الأعلى بأن عليه، إما أن يعيد النظر في قراراته، أو أن يأخذ عطلته ويترك الملف لغيره ممن يعتبرون أن هيبة الدولة ومكانتها يفوقان اعتبارات نزاهة الانتخابات في أية دائرة من الدوائر. تزامن ذلك مع إعلان المرحوم أحمد الحمياني وزير الداخلية آنذاك في صيف 1963 عن اكتشاف مؤامرة ضد سلامة الدولة. ولن يبقى أحمد الحمياني وزيرا للداخلية في نونبر 1963، حيث سيتولى رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، المؤسسة التي ستدرس الطعون في الأحكام الصادرة يوم 14 مارس 1964 بخصوص المؤامرة التي أعلن عن اكتشافها الحمياني بوصفه وزيرا للداخلية. إلى هذه الدرجة كان تداخل الاختصاصات وتكرار التعليمات والتوجيهات من العوامل التي أثرت منذ البداية على استقلال القضاء في المحاكمات السياسية، وهذه إشكالية ستعرف المزيد من الحدة مع توالي سنوات الرصاص، وستصبح لمحاضر الشرطة القضائية اعتبارات تفوق اجتهادات قضاة التحقيق. وبطبيعة الحال ما عرفته الملفات السياسية سينعكس على الملفات الأخرى من جرائم وجنح الحق العام وملفات المعاملات اليومية للمجتمع، وخاصة منها المعاملات المالية والتجارية. كل هذه مراحل لا يمكن تجاهلها من طرف المكلفين بالمشاورات الهادفة إلى إصلاح القضاء، لجعل المغاربة في المستقبل يذهبون إلى المحكمة يحدوهم شعور الثقة والاطمئنان بأن عهد الفساد في الطريق إلى الزوال.