AHDATH.INFO تناول رئيس مؤسسة الملتقى الدكتور منير القادري، خلال مشاركته السبت 27 من الشهر الجاري، في الليلة الرقمية الرابعة والثمانين المنظمة ضمن فعاليات ليالي الوصال الرقمية للطريقة القادرية البودشيشية، موضوع "التربية على القيم الاخلاقية وإعداد الإنسان – من الجوهر إلى المظهر"، والتي بثت مباشرة عبر المنصات الرقمية لمؤسسة الملتقى. أشار في مستهلها إلى أن الإِنْسَانِيَّةُ جَمْعَاء تواجه اليوم تَغَيُّرَاتٍ وَتَحَدِّيَاتٍ َاجْتِمَاعِيَّةً وسِيَاسِيَّةً وَاقْتِصَادِيَّةً وَدِينِيَّةً، تحمل في طياتها وأصلها أزمة أخلاقية؛ و أن البشرية فقدت بوصلة الاخلاق والقيم وغرقت في النزعة الاستهلاكية والليبرالية المتوحشة والنزاعات الطائفية والمذهبية. وتابع أن عالم اليوم آثر التنمية في بعدها المادي، مُضَحِّياً بالقيم الأخلاقية والروحية، و أَنَّ هذه الأَزْمَةَ الأَخْلاقِيَّةَ تعاني منها أيضا مُجْتَمَعَاتِنَا الإِسْلامِيَّةِ الَّتِي بُنِيَتِ الأَخْلاقُ وَالْقِيَمُ فِيهَا عَلَى مَنْهَجٍ اسْتَوْحَى أُصُولَهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ. وشدد على أن للأخلاق دور حاسم في التطور الفكري والتقدم الحضاري للأمم، واستطرد موضحا أن الأخلاق تلمس كل مظاهر الحياة الإنسانية، وتمثل الجانب المعنوي والروحي في الحضارة الإنسانية كما تمثل جزءا أصيلا من بنية هويتنا الإسلامية، وأردف أنها عمق التدّين، وجوهر الدين وحقيقته، بعيدا عن مجرد الايمان الفكري بالمعتقدات، أو اداء العبادات كمظهر من مظاهر إبداء التدين، مما لا يجدي نفعا امام الله، مستشهدا تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ ﴾[سورة المائدة الاية 27]. وبين القادري أن الإنسان مخلوق مادي وروحي، خلقه الله تعالى من قبضة من تراب ونفخة من روح، وأن للتراب انشداداته وميوله، كما للروح طموحاتها وتطلعاتها، مما يجعله ميدان تجاذب بين الاتجاهين، وأنه مع هذه التجاذبات المتضادة، يحتاج الانسان إلى قوة تمكنه من التحكم السليم في رغباته وميوله، وتوجهها لصالح نفسه ومجتمعه، وأكد أنه لا توجد قوة تتمكن من القيام بهذا الدور، افضل من الوازع الأخلاقي، الذي يؤسس لبناء الإنسان ويدفعه للخير ويمنعه عن الانحراف والشر، مستدلا بالحديث الشريف "إذا أحبَّ الله عبدًا جعل له واعظًا من نفسِه، وزاجرًا من قلبِه، يأمره وينهاه". وأضاف أن الْمَقْصِدَ الْأَعْظَمَ مِنَ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِي هُوَ جَلْبُ الْمَصَالِحِ، وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ؛ وَأن ذلك لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِإِصْلَاحِ حَالِ الْإِنْسَانِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ أَيْ جَسَدًا وَعَقْلًا وَرُوحًا، مستدلا بقوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الَّدينُ الْقَيِّمُ﴾[الروم:30]، كما أورد قول ابْنُ عَاشُور: ( لِذَلِكَ نَرَى الْإِسْلَامَ عَالَجَ صَلَاحَ الْإِنْسَانِ بِصَلَاحِ أَفْرَادِهِ الَّذِينَ هُمْ أَجْزَاءُ نَوْعِهِ، وَبِصَلَاحِ مَجْمُوعِهِ وَهُوَ النَّوْعُ كُلُّهُ؛ فَابْتَدَأَ الدَّعْوَةَ بِإِصْلَاحِ الاعْتِقَادِ الَّذِي هُوَ إِصْلَاحُ مَبْدَإِ التَّفْكِيرِ الْإِنْسَانِيّ الَّذِي يَسُوقُهُ إِلَى التَّفْكِيرِ الْحَقِّ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ؛ ثُمَّ عَالَجَ الْإِنْسَانَ بِتَزْكِيَّةِ نَفْسِهِ وَتَصْفِيَّةِ بَاطِنِهِ لِأَنَّ الْبَاطِنَ مُحَرِّكُ الْإِنْسَانِ إِلْى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الشريف : «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» رَوَاهُ البخاري). وزاد أن هذا السلوك التربوي يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى بُعْدَيْنِ، الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، لِكَيْ يَتَمَكَّنَ تَأْثِيرُهُ من كُلِّيَّةِ الإِنْسَانِ فِي سَائِرِ أَعْمَالِهِ جَسَدًا وَرُوحًا؛ وَأنه بِهَذَا يُوَافِقُ ظَاهِرُ الْعَبْدِ باطنه وباطنه ظاهره، فلا يبقى مجال للنفاق الاجتماعي ولا السياسي ولا الديني، الذي هو الآفة الكبرى التي أصابت مجتمعاتنا في العصر الحاضر وأثرت سلبا على المنظومات الأخلاقية الإنسانية، مذكرا بقوله صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ " متفق عليه. و لفت مدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، الى أن حب المظاهر وصونها طغت على تخلية النفس و تحليتها، وأنه شاع التنافس على ما هو زائل في مقابل ما هو دائم؛ فاختلف الظاهر والباطن في غياب للمعاني الإيمانية الربانية التي تربط القلوب ببرد اليقين. وقال الدكتور منير "فترى من البشر من ارتسمت على شكله سمات التدين ومظاهر الالتزام، لكن لو فتشت عن المضمون والجوهر في تصرفاته و معاملته لوجدته خاويا، يسيء الظن بالناس لا يراهم إلا مارقين خارجين عن شرع الله حق عليهم العذاب ميؤوس منهم. وبالجهة المقابلة ترى شخصا مسبلا ثوبه حالقا لحيته، مراقب ربه، حسنٌ خلقهُ طيب معشره يألف ويؤلف"، وتابع "لم ينبهر العرب بملابس الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم و لا بمطعمه و لا بمشربه ولكنهم انبهروا بعظيم أخلاقه وطيب سيرته وحسن أدبه ولِيْنِ معاملته فَحَوَّلَهُمْ من أمة ترعى الغنم إلى أمة تقود الأمم". وشدد على أن هذه الأخلاق هي التي نفتقر إليها اليوم، وليس أخلاق الثواب والعقاب، بل أخلاق الحياة، وحسن المعاشرة و اللين في المعاملة، أخلاق التعاطي مع أشكال الوجود والمجتمع، أخلاق موجهة لتحقيق السمو والتعالي هدفها خدمة الإنسانية. ونبه الى أن العبد مؤاخذٌ بأعماله القلبية كما هو مؤاخذ بأعماله الجسدية، فكلاهما محلٌّ للثواب والعقاب، مستدلا بقوله تعالى: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120]، كما أورد مجموعة من أقوال العلماء منها قول ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد: "أن الأمة الوسط هي التي تعتني بالأمور القلبية، وتُعْطَيها حقها، وتعتنى بأعمال الجوارح وتؤديها حقها، فهذا سبيل المرسلين عليهم الصلاة والسلام، كانوا يهتمون بأمور القلب كما يعنون بأمور الجوارح"، وقول ابْنُ عَبَّاد الرندي- رَحِمَهُ اللهُ – في الرِّسَالَةِ الأُولَى مِنْ رَسَائِلِهِ الْكُبْرَى: «وَجُمْلَةُ التَّصَوُّفِ كَوْنُ الْعَبْدِ عَلَى حَالَةٍ تُوَافِقُ رِضَى مَوْلاهُ عَنْهُ وَمَحَبَّتَهُ لَهُ؛ وَذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ: عِلْمٍ وَعَمَلٍ، فَالْعِلْمُ يُسْتَفَادُ بِهِ تَصْحِيحُ عَقَائِدِ أَهْلِ الدِّينِ وَمَقَاصِدِ الْمُكَلَّفِينَ؛ وَالْعَمَلُ يُسْتَفَادُ بِهِ قِيَامُ الْعَبْدِ بِحُسْنِ الأَدَبِ بَيْنَ يَدَيْ رِبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَذا هُوَ حَقِيقَةُ مَا جَاءَنا بِهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وأضاف أن التصوف هو العلم بتزكية النفوس وطهارة القلوب، حتى ترتقي إلى حضرة ملك الملوك ومعرفة خواطر النفس وأماراتها ودقائق تلوناتها وفطامها عن شهواتها، موردا قول سلطان العلماء العز بن عبد السلام: "مبدأ التكليف كلها ومصدرها القلوب...، والطاعات كلها مشروعة لإصلاح القلوب والأجساد و نفع العباد في الآجِلِ والمَعَادْ". وزاد أن التصوف هو علم الإخلاص الباطني الذي يهتم بصناعة الإنسان وإعداده إعداداً متكاملاً دينياً و دُنيوياً في ضوء مصادر الشريعة الإسلامية، وَوِفْقَ منظور التحقق بمقامات أولياء الله الصادقين في مقامات القرب، و أنه قدم عبر التاريخ نماذج إنسانية وحضارية راقية شكلت مرجعا قيميا وأخلاقيا وروحيا كبيرا، حتى قيل أنّ المتصوّفة أسّسوا «فقه الباطن» مثلما أسّس الفقهاء «فقه الظاهر»، فكان فقه المتصوفة منشغلًا بأخلاق النفس ووسائل تربيتها وتزكيتها، وهو بذلك يجري موازيًا لأحكام فقه الجوارح ومكمّلًا لها. وأشار الى إجماع الباحثين على أن التصوف السني يشكل في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ شعوب المنطقة والعالم على حد سواء مدخلا لبناء مجتمع أخلاقي وكيان حضاري متجدد ومنتج لقيم البناء الحضاري للإنسان و العمران وتحقيق المواطنة الصادقة في النفوس وفق رؤية تحافظ على ثوابت الأمة الدينية والتاريخية، وفي نفس الوقت قادرة على مسايرة العصر في جميع متغيراته وتطوراته و مخاطبة الأخر المخالف انطلاقا من منظور يعتمد الأخلاق أساسا له. و اختتم مداخلته بالتأكيد على أن المغاربة استطاعوا على مر العصور مستندين إلى كتاب الله وسنة نبيه الكريم في تمثلهم لأحكام الدين التشريعية، من ترسيخ أحكام العقيدة الأشعرية، والفقه المالكي، والسلوك الجنيدي، من تشكيل وبلورة أصالة عريقة لهويتهم الدينية والثقافية والروحية، وفق نموذج فريد ومتميز اتخذ من أمارة المؤمنين الحصن الحصين والضامن للثوابت هذه الهوية وملاذ المستضعفين، فصارت منظومة متكاملة مبنية على اختيارات مذهبية تتوافق والتوجه السني المعتدل، منسجمة وطبيعة المجتمع المغربي الميالة إلى طلب الاستقرار و الأمن والأمان الروحي.