بعيدا عن ثقافة «القصاص» التي تتملك الأشخاص الذين تعرضوا لحوادث اعتداء شنيعة، فضلوا هم خيار المواجهة بكل شجاعة .. تتعدد قصصهم وتتقاطع الظروف التي أملت عليهم ذلك، ويوحد بينهم بوح شكواهم التي لم تظل حبيسة دواخلهم خوفا من التهديدات بالإنتقام .. البعض جعلتهم الشجاعة يتحولون من ضحايا إلى مجرمين بعدما استبد بهم سلطان الثأر ، وآخرون فضلوا خيار المتابعة القانونية صونا لكرامتهم وحقوقهم ! اليأس والقنوط. أحاسيس سوداء تملكت «سعيد» (27 سنة). الشاب الذي لم يذق غير طعم الشقاء في حياته.ولم يظن أن الشعور ب “الحكرة” بدوره سيزحف على يوميات بطالته القاتلة، بعد أن تعرض لاعتداء بالسلاح الأبيض من طرف أحد أقرانه بالحي، بسبب قطعة من مخدر “الحشيش”. اعتداء أعقبته تهديدات جدية له من طرف عائلة المعتدي المعروفة بعلاقاتها النافذة. وجعله يعيش في حالة نفسية متردية، قبل أن يقرر في لحظات ضعف خرق “الهدنة”. عنف وعنف مضاد ! جو ماطر، إنارة خافتة، ولفحات برد قارس. كانت كل ماعلق بذهن «سعيد»، وهو يتذكر تفاصيل الليلة الصيفية التي ارتسم فيها على خده ندبة ظاهرة لم يفارقها أثرها حتى اليوم. ليلة لم يطويها النسيان من مخيلته، بسبب ماتعرض له من عنف مفرط من طرف صديق طفولته بسبب لفافة حشيش كان يمني النفس بتدخينها خفية عن المتطفلين. «مكنتش كنسحاب الأمر غادي يتطور لهاذ الحد». يحكي «سعيد» والحركة بادية على محياه، ثم يستطرد .. «ماقمت به رد فعل شرعي في مواجهة الإحساس بالظلم والذل الذي تجرعته لأشهر بعد اعتدائه علي». حكاية كانت من القصص الشائعة التي تداولتها ساكنة الحي لشهور، خاصة بعدما اختار «سعيد» مواجهة تهديدات عائلة المعتدي وتلويحهم بالإنتقام منه، برد الصاع صاعين، خاصة وأن رهانه على القانون لم يؤتى أكله بسبب ماأسماه “العلاقات النافذة التي كانت تشتهر بها العائلة المذكورة”. «مني كنفكر في الأمر كنلقى راسي عندي الحق». يوضح «سعيد» وهو يحاول جاهدا إقناع نفسه بشرعية ماقام به. «لا أحد يعيش في هذه الحياة بدون خطيئة»، يستطرد «سعيد» الشاب الهادىء الذي اختار في لحظات ضعف عدم تقبل التهديدات المبطنة له بالإنتقام منه، وفضل القصاص لنفسه، ورهن شهور من عمره وراء القضبان، بعد أن تسبب لغريمه في عاهة مستديمة. مواجهة بلون الدم ! لا أحد يثبت في مكانه. الكل يتحرك، ووحدها الهمسات والنظرات تجمع بين الحاضرين، وبين الفينة والأخرى دعوات متكررة لهم بالتزام الصمت والهدوء .. «راه سبيطار هذا»، تصرخ إحدى الممرضات في وجوههم. بعد لحظات يصدمهم الخير اليقين، الذي أخرجهم من دائرة الشك والتخمين .. «عظم الله أجركم، ولدكم مات الله يرحمه»، لتنخرط إحدى السيدات المسنات في نوبات بكاء وصراخ، بعد أن حكمت عليها الأقدار مفارقة فلذة كبدها الذي فضل مواجهة التهديدات بالقتل بشجاعة، ليكون الثمن إزهاق روحه من طرف أحد تجار المخدرات. قضية ظلت حديث ساكنة الحي لمدة طويلة، وسكنت أروقة المحاكم لشهور، بعدما فضل الضحية المغلوب على أمره، مواجهة تهديد الجاني له بالقتل، والإنتقام منه في حالة تقييده لشكاية ضده لدى المصالح الأمنية. «لم نكن نظن أن تهديدات “البزناس” ستكون جدية .. تقدم ابني لمصالح الأمن بشكاية تضمنت معطيات عن كل الاعتداءات المتكررة التي تعرض لها من طرف المروج وعائلته»، تحكي الأم بعيون دامعة، وهي تركز نظرها على صورة موضوعة بعناية لابنها القتيل. تتعدد في غالب الأحيان الأسباب التي تؤدي إلى ردود أفعال انتقامية يمكن أن تتطور لجرائم قتل دموية، كما في الحالة المذكورة، حيث يكون السبب في غالب الأحيان، رغبة الضحية في الإقتصاص لنفسه بعيدا عن نصوص القانون الذي تحفظ له حقه في متابعة المعتدي جنائيا. وفي المقابل نجد حالات كثيرة صمدت في وجه استفزازت الطرف الآخر، وفضلت خيار المواجهة المحسوبة العواقب عبر قنوات المتابعة القضائية. إرادة القانون ! خلافا للطقس الشائع الذي يجعل دائرة الإعتداء والإنتقام تعرف نهاية دموية لأحد الطرفين. اختار «عبدالغني»، مواجهة جبروت مغتصب ابنه وتهديداته بالمساطر القانونية . مجرم من ذوي السوابق القضائية في مجال “الاغتصاب والاحتجاز، والاتجار في المخدرات، والضرب والجرح الخطيرين باستعمال السلاح الأبيض”. كان المتهم البالغ من العمر ثلاثين ربيعا، والذي روع سكان أحد الأحياء الهامشية لمدينة فوسفاطية بسبب تسلطه، ونشاطه الإجرامي، إذ قام نقلا عن محاضر الشرطة القضائية، وقبل اعتقاله بأسبوع واحد، باعتراض سبيل فتاة بالحي المذكور، واقتيادها تحت التهديد بالسلاح الأبيض إلى مكان خال من المارة، ثم عمد إلى اغتصابها، تاركا الضحية في حالة يرثى لها. أيام قليلة بعد ذلك وفي قاعة مخصصة للألعاب الإلكترونية . دخل طفل صغير إلى المقهى الشعبي، واختار أن يصعد إلى الطابق العلوي المخصص للألعاب الإلكترونية للتمتع بوقته0 كان المجرم الجالس على أحد مقاعد المقهى يراقب تصرفات الطفل عن كثب، لكن ليس بعين الراشد السوي، بل كذئب بشري يحاول اقتناص جسم الطفل البريء قصد اغتصابه. حاول جاهدا استدراجه إلى مكان ما غير أن الطفل رفض بدعوى انشغاله في اللعب، وبعد انتهاء الطفل ومغادرته للقاعة. تعقب خطواته وبدأ في التغرير به، حيث أوهمه أنه سيمنحه أشياء جميلة في حال مرافقته، أمام هذا الوضع وبراءة الطفل المسكين، لم يجد بدا من مرافقته إلى منزل مهجور، حيث جرى اغتصاب الطفل الصغير بأبشع الطرق، قبل أن يخلي سبيله ويتركه يذهب إلى منزله في حالة صحية متدهورة. وضع مأساوي لم يجد مع «عبدالغني»، وأمام شهادات من عاينوا مرافقة الطفل للمجرم المعروف بحوادث اغتصاباته المتسلسلة، بدا من التوجه لمفوضية الأمن، وتسجيل شكاية في حق من اغتصب براءة طفله الصغير. شكاية لم يظن أنها ستحيل أيام حياته إلى مايشبه الجحيم، خاصة بعدما أصبح هدفا يوميا لتحرشات المبحوث عنه الذي لم تطله يد العدالة. استفزازات و اعتداءات متوالية بالإنتقام، لم يخضع لها «عبدالغني»، وفضل الخيار الواقعي في الثأر لوحيده الصغير، واضعا بعد ذلك حدا للمجرم الذي طال بأسه كل ساكنة الدواوير المجاورة. محمد كريم كفال