يقدم المخرج السينمائي أيوب العياسي العرض ما قبل الأول لفيلمه الروائي الطويل " ما تفاهمناش"يوم الثلاثاء 10 أبريل الجاري على الساعة السابعة مساء، بسينما الريتز بشراكة مع جمعية أنوار للثقافة و الفنون. فيما يلي قراءة تحليلية للفيلم يوقعها الدكتو محمد طروس الناقد و الأستاذ الباحث المتخصص في التحليل الفيلمي. قبل الشروع في قراءة فيلم "ماتفاهمناش" للمخرج أيوب العياسي، أود أن نتعاقد على أنها مقاربة سيميائية تداولية، تركز بالأساس على إنتاج المعنى، وتنطلق من دراسة تحققات البنية السطحية للنص الفيلمي، وتفكيكها إلى عناصرها اللغوية السمعية البصرية، واستنباط البنية العميقة والعلاقات المتحكمة في بنائها، ثم إعادة بناء العالم الفيلمي، وإبراز وظائفه الخطابية. يحكي فيلم " ماتفاهمناش " حكاية بسيطة، تدور أحداثها في نزل مطل على بحيرة سد لالة تكركوست، تديره امرأة مسنة بمعية ابنتها "الباتول"، وخادمهما العجوز. يدمن الثلاثة على ارتكاب جرائم قتل في حق الزبناء. جرائم يعجز مفتش الشرطة عن حلها، بل لا يرغب في حلها. بعد عشرين عاما في أمريكا يعود "إدريس" إلى البلدة مصطحبا معه زوجته. يحمله الواجب إلى زيارة أمه وأخته في النزل. يخفي هويته، ليكون ضحية جديدة. يقتل. يرمى في البحيرة. تعرف الأم الحقيقة. تبوح البنت. تصدم الزوجة. يغيب الخادم. تنتهي الحكاية وتظل منفتحة على جرائم ممكنة. فكيف بنيت هذه الحكاية فيلميا؟ ننطلق من البنية المقطعية، ونرصدها من خلال مجموعة من المؤشرات: تتكون من 43 مقطعا، تغلب عليها المقاطع أحادية اللقطات (19 مقطعا)، تليها المقاطع قليلة اللقطات (17 مقطعا)، أما المقاطع كثيرة اللقطات فلا يتجاوز عددها سبعة مقاطع؛ مما يعطي للبنية المقطعية طبيعة مشهدية، يهيمن عليها هدوء الإيقاع وتغليب التشكيل. تتأكد الطبيعة المشهدية في هيمنة التأطير الكلي، الذي يسود في المقاطع الواصفة للفضاء، أو في تأطير الشخوص داخل الفضاءات الداخلية، بينما يقتصر التأطير الجزئي على الحوارات القليلة أو على بعض التفاصيل الصغيرة. تسود أيضا الحركة الثابتة للكاميرا، إذ تتحقق في 35 مقطعا، بينما لا تتحقق الحركة الماسحة التي تصف الفضاء ( الغابة، البحيرة..) أو تتنقل بين الشخوص أثناء الحوار(المقطعان 20 و 21)؛ أو الحركة السائرة إلى الخلف (المصاحبة للشخوص) إلا في ثمانية مقاطع. كما يسود الموقع الأفقي باستثناء بعض اللقطات النادرة التي نجد فيها لقطة عصفورية أو صاعدة (المقاطع 6 – 11- 16- 38- 41). وبسيادة الموقع الأفقي والحركة الثابتة، يجد المتلقي نفسه في وضعية مريحة ساكنة، منها يشاهد العالم الحكائي من بعيد دون أن يندمج فيه، أو يتفاعل مع شخوصه؛ أي أنه يحتل موقع المتأمل الذي يتخذ مسافة من موضوع تأمله. يتحقق الالتحام بين اللقطات وبين المقاطع اعتمادا على تقنية القطع الحاد، باستثناء الحالة التي تم فيها الانتقال من المقطع 13 إلى المقطع 14 بواسطة الموسيقى الداخلية الراقصة؛ أو حالة الربط بين المحطات الكبرى بواسطة مشاهد ثابتة للفضاء (المقاطع 15 – 17 – 23 – 36)، مما يجعل الالتحام بين المقاطع خاضعا لتطور البنية الحكائية. تتشكل العلاقة القولية بين المتلقي وبين قائل الفيلم وبين الشخوص اعتمادا على زاوية النظر الخارجية [ كاميرا موضوعية]، حيث يهيمن الراوي الضمني على بناء الفيلم، يحرص على أن تكون العلاقة بينه وبين المتلقي مباشرة. نادرا ما ينسحب الراوي الضمني ليدخل المتلقي إلى عالم الحكاية عبر زاوية النظر الداخلية [ كاميرا ذاتية]. تحقق ذلك عبر التناظر الحقلي ( المقاطع: 8 – 19 – 21 – 40 )، وفي مقاطع البوح التي توقف السرد وتؤطر الشخوص في لقطات مقربة، لتتحدث عن معاناتها: (المقاطع: 2 – 25 – 29 – 33 ). هكذا تقل إمكانية التفاعل بين المتلقي وبين العالم الفيلمي الداخلي وتتقوى مكانة المتلقي المتأمل. اختلف التحقق السمعي في البنية المقطعية بين مقاطع حوارية (19 مقطعا) ومقاطع موسيقية (15 مقطعا)، ومقاطع تقتصر على المونولوج (5 مقاطع)، ومقاطع صامتة (5 مقاطع) بالإضافة إلى مقاطع قليلة اكتفت بالتضجيج (4 مقاطع). يلاحظ أن الغالبية العظمى من المقاطع مقاطع أحادية الصوت، تجعل المتلقي في وضعية مريحة خاصة في تلقيه للحوارات والمونولوجات. يلاحظ أن الزاوية السمعية تتوزع بين زاوية داخلية (حوارات، مونولوجات، تضجيج) وبين زاوية خارجية تتجسد في الموسيقى الخارجية، وبالتالي تتيسر العلاقة بين المتلقي وبين الشخوص عبر العلاقة الصوتية، بينما يمارس الراوي الضمني تأثيره السردي بواسطة الموسيقى. نسجل أننا أمام بنية مقطعية، تتميز بصريا بهيمنة التأطير الكلي، وسيادة الموقع الأفقي والحركة الثابتة، والقطع الحاد في الالتحام المقطعي، وهيمنة زاوية النظر الخارجية في العلاقة القولية؛ كما تتميز سمعيا بسيادة المقاطع أحادية الصوت، والتوازي بين الزاوية الداخلية. تتميز البنية المقطعية إذن بكونها بنية ذات طبيعة مشهدية تشكيلية بامتياز، يتحكم فيها راوٍ ضمني، ويستقبلها متلقٍّ هادئ متأمل. فماذا عن البنية الحكائية؟. نقف في مقاربتنا للبنية الحكائية عند ملامحها البارزة: تتشكل الحكاية الفيلمية من حكاية بسيطة وحيدة، تتخذ مسارا وحيدا، لا يسمح بإمكانيات حكائية أخرى. أي أنها عالم مغلق يعيد إنتاج ذاته باستمرار. تتحقق الحكاية مرة واحدة في البنية السطحية للحكاية، ويتكرر تحققها في البنية العميقة. تمتد الحكاية خطيا وأفقيا في زمن تحققها السطحي، وتتراكم نسخها عموديا في زمن الذاكرة العميق. تقوم الحكاية الفيلمية على بنية حدثية تنطلق من حدث مولد ( قدوم زبون إلى النزل) وحدث أساس ( قتل الزبون)، وحدث منتهى ( إخفاء الجثة). لا تتوقف هذه البنية عن التكرار والحدوث الدائم. نفس البنية تتحقق مع حدث حضور المفتش الذي يحمل إمكانية انفتاح الحكاية على مسار جديد ( السجن، مثلا)، غير أن صرامة بنية التكرار تعود إلى التحكم (اختفاء المفتش). كان بالإمكان أيضا أن تتخذ البنية اتجاها جديدا لو عرف الضحية الجديد بنفسه، لكن البنية الحدثية العميقة لا تسمح بذلك. يتكون الفضاء الحكائي في البنية السطحية من فضاءات عتبة (الطريق، محيط القرية) و فضاءات أساس (النزل، البحيرة)، ترتبط فيما بينها بنفس الصرامة التي تحكم البنية الحدثية. ينبني الفضاء أيضا على تقابل عميق بين فضاء الحكي وفضاء الحلم ( البحر، العالم الآخر، أمريكا). بين فضاء العزلة والاختناق، وفضاء التحرر والانطلاق. تقوم بنية الشخصيات، سطحيا، على تقابل أساس بين شخصيات شريرة ( الباتول، الأم، الخادم، "المفتش") وبين شخصيات الضحايا. غير أن التقابل لا يقوم على نفس الأساس في المستوى العميق، حيث تختزل كل الشخوص في شخصية واحدة ووحيدة: شخصية الضحية. شخصية بدون هوية ولا ملامح. شخصية منقادة إلى مصير واحد محتوم، سجينة أحلامها الذاتية (الحلم، الحب، الواجب، التعب، هكذا تتميز البنية الحكائية بكونها بنية خطية بسيطة، بنية تتكرر بفضل صرامة تبنين مكوناتها الحدثية والفضائية والشخوصية. كيف نفسر ما وصلنا إليه؟ ماذا يمكن أن نستنتج من بينة مقطعية مشهدية، ومن بنية حكائية خطية وصارمة البناء، ومن علاقة قولية باردة بين قائل الفيلم وبين متلقيه؟ أي غاية تتحكم في هذا التبنين؟ وأية خطاب يطوي خلفه؟ ما قضيته؟ ما موقفه؟. لنعد إلى العلاقة بين القائل والمتلقي، كذاتين خارجتين عن البنية الفيلمية؛ ولنتساءل عن الفعل الأساس الذي حرك القائل وجعله يضع الثاني في موقع المتأمل البارد البعيد عن الانفعال والتفاعل؟ لماذا لم يقدم له قضية واضحة ومحددة. لماذا لم يعمل على تبرير ما يحدث، بل جعله أمرا محتوما. ما الذي يبرر عملية الحضور والاختفاء؟ ما دلالة تكرار نفس الجريمة؟ لماذا جعل شخوصه ينقادون إلى الموت أو يصنعونه؟ لماذا لم يعطهم الحق في اختيار مصائرهم؟. ما موقفه من الجريمة؟ لماذا لا يترتب عنها عقاب؟. تعيدنا هذه الأسئلة إلى انتفاء المباشرة في الفيلم وفي العلاقات القولية؛ تعيدنا إلى الإيحاءات الرمزية، إلى صمت الخادم وتغيراته المظهرية (الملابس)، إلى سكون البحيرة، إلى جدلية الظهور والاختفاء، إلى انهيار جميع الشخوص، إلى كل هذا العالم الليلي الغامض. لنكتشف أن الفيلم لا يقتصر على بناء حكايته من أجل الحكي. أو لنقل إن الحكي ناتج عن تأمل فلسفي عميق، ينظر إلى مكونات الحكاية باعتبارها رموزا، ظواهر عابرة لمتاهة واحدة أزلية وثابتة، متاهة العبثية والعذاب الأبدي للإنسان. نفس المصير الوجودي يتكرر. تلك هي القضية. ذاك موقف القائل. وذلك ما يبرر الاختيارات المقطعية والحكائية والدلالية لفيلم " ماتفاهمناش".